العامل الحضاري في زمن التحولات الكبرى
يبدأ منتدانا اعماله في مناخ دولي ساخن تتنامى فيه مختلف النزاعات. من خلال تأملاتنا وتحليلاتنا لهذه النزاعات نلحظ دوافع جديدة محركة لها. والحديث يجري هنا عن الازمة المتفاعلة الدائرة بين النخب العالمية القائدة. وبداية تجلي هذه الازمات تظهر للعيان من خلال الاقلاع عن ايجاد ارضية صلبة واتفاق طويل الامد وتفاهم عميق. وهذا ما يخلق الظروف الملائمة لاستمرار الخلافات الماضية، ويساعد على البروز الدائم للمخاطر الجديدة.
شهدت الثمانينات والتسعينات من القرن الفائت تحولات تاريخية كبرى، بدت وكأنها تؤسس لتغيرات نوعية على كل المستويات، بدت وكأنها تشرع لإقامة نظام عالمي من نوع جديد. لقد تم القضاء على آخر مخلفات الحرب البادرة وما رافقها من عوائق سياسية واقتصادية وايديولوجية، وهذا ما اسرع من وتيرة تطور العولمة. بدا وكأن هناك في الافق علامات بدايات مشجعة للتطور الحر المستند الى علاقات واسعة من التعاون والتفاهم بين الدول، الهادفة الى حل المشاكل القديمة المستعصية والتي تحول دون بروز مخاطر وصراعات جديدة. بيد انه حينذاك ظهرت للعلن آراء وطروحات تحمل في ثناياها طاقة هائلة من التحريض على الصراعات، فشكلت بدورها ذريعة لبعض السياسيين الدوليين المؤثرين.
من تلك النظريات تم الترويج لتلك الورقة التي تنعى نهاية التاريخ منتشية بانتصار قيم نمط حضاري عالمي من نوع جديد. فهؤلاء الذين تنبّأوا بالنصر النهائي لهذه الحضارة الموعودة، رأوا بأن لا مهرب من الدخول في مرحلة جديدة من الصراعات الحتمية التي تجري على كل الجبهات من اجل التصدي لتلك الجهات الممانعة التي تستند الى موروثات ثقافية لحاضرات مغرقة في قدمها وعراقتها. تلك النظريات اقرت بأهمية العامل الحضاري، بيد انها ركزت جهودها على الدور السلبي الذي يمكن ان يلعبه العامل الحضاري في المسيرة التاريخية.
واذا ما رجعنا بذاكرتنا الى الوراء الى مرحلة السبعينات، التي شهدت بداية البروز لظاهرة العولمة، لحظنا في تلك المرحلة بالذات حصول الثورة الروحية – الاسلامية في ايران، ودخول الجيش السوفياتي الى افغانستان، وانشغال الساحة الدولية بالعديد من الاحداث الكبرى. كل هذه التحويلات حملت في ثناياها الفعل الظاهر والمؤثر للعامل الحضاري، الذي تمكن من تحريك مجريات الاحداث بين دول الشمال والجنوب، وكل هذا ترافق مع بروز العولمة كظاهرة كوكبية.
ان مجمل التحولات التي رافقت مسيرة العولمة في الثلث الاخير من القرن العشرين ادت الى انقسام جديد للنخب العالمية الى فريقين اساسيين. قسم من النخبة مضى مع التيار الذي يقر "بالقيم البشرية العامة الحضارية" التي تخضع مسارها لمجريات موجات العولمة. الامر الذي ادى الى تكون ما يمكن ان نطلق عليه تسمية "نخبة" العولمة المالية والاعلامية والتكنولوجية والثقافية الجماهيرية. وهي التي اختارت نفسها موقعاً يطمح بأن يكون القطب الوحيد في العالم، علماً بأن التقييم الموضوعي لهذه "النخبة" لا يمكن توصيفها الا كونها جزءاً من منظومة النخب العالمية. القسم او الجزء الآخر من النخبة العالمية اختار لنفسه موقع التموضع الذاتي، مع الاخذ في الاعتبار بأنه في ظروف التحديات المعاصرة التي تفرضها العولمة، بدا التمسك بمعايير الهوية الثقافية والشخصية القومية غير كاف او مؤكد لمجابهة التحديات. هذا الجزء من النخبة دعت اليه الحاجة لأن يرفع برأسه اثناء عملية التموضع الذاتي، هادفاً من وراء ذلك الى استشراف الابعاد الخاصة لهويته. من هنا ظهرت الطروحات الداعية لتحديد المعايير والمعالم والابعاد المحددة لكل حضارة.
كل هذه الطروحات المختلفة التي تسكن في ذهن وسلوكيات النخب، تحمل ابعاداً اجتماعية ثقيلة، وتخرج عن الطابع الشخصاني او المحلوي المرتبط بفئة معينة من الناس. ففي محيط النخبة تنشأ وتتشكل ليس الافكار فقط بل الحلول الرئيسية للمشاكل وتظهر بشكل علني لدى السياسيين لاحقاً.
ان الحالة الجديدة التي نشأت في عالمنا المعاصر وحاولت طرح الحلول والتي لا يستند اصحابها الى موروث حضاري عريق، سعت وبشكل علني من اجل الغاء او ابعاد اي تركيز على الهوية الحضارية في قراراتها. وهذا ما أدى ويؤدي الى حدوث تناقضات لا بل صراعات سياسية واقعية على مستوى العلاقة بين الحضارات ويؤدي ايضاً الى صب الزيت على النزاعات الحادة.
واحد من الامثلة الظاهرة للعيان مأساة كوسوفو التي لم تجد اي حل معتدل لها حتى الآن.
وهناك مثال ساطع آخر، يظهر من خلال تلك الرغبة العقلانية الهادفة الى حل المشاكل السياسية على اساس ترداد كلاشيهات مثل (حقوق الانسان والحريات الديموقراطية). هذا الذي ادى الى حدوث مآسٍ ثقافية وانسانية والى كوارث واسعة لجماعات بشرية بأكملها. مثال وسط اوروبا خير دليل على ذلك. تلك المنطقة التي تكونت تاريخياً كملتقى للحضارات. من المؤسف القول بأن هناك آراء مناقضة لوقائع الحياة والتاريخ تفعل فعلها السلبي، مفادها بأنه من اجل اتخاذ القرارات الفعالة المتعلقة بادارة العالم لا بد من القيام بغسل عقلاني للبيئة البشرية من خلال استبعاد العامل الذي يركز على مسألة الاصالة الحضارية. والاصالة مرتبطة بخصوصية البشر المكونة تاريخياً والمؤثرة في حاضرهم والحاضنة لاستمراريتهم في المستقبل.
الاستهانة بمصير هؤلاء اضحت تشكل العنوان البارز لاولئك الذي ينهجون سياسة مزدوجة المعايير في حل هذه المعضلة الحضارية او تلك، أليس من المؤسف الاشارة في هذا السياق الى ان الامم المتحدة فقدت فعاليتها في ايامنا، الامر الذي يجعلها تبدو وكأنها تسير موجب املاءات الطرف الذي يضع سيناريو المعايير المزدوجة. والنتيجة هو تأجيج الصراعات الدولية وادخالها مرحلة جديدة من التصعيد والتوتر.
(•) شخصية اجتماعية روسية بارزة وأحد رؤساء المنتدى العالمي للحوار بين الحضارات الذي يأخذ من رودس (اليونان) مقراً له. بهذه الكلمة تم افتتاح المؤتمر العالمي الرابع للمنتدى الذي عقد في فندق البارديس في رودس بين 28 ايلول و1 تشرين الاول 2006.
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد