الشريعة والسلطة كما تحضران في العالم الإسلامي

16-08-2008

الشريعة والسلطة كما تحضران في العالم الإسلامي

أضحى الإسلام والحركات الإسلامية محط دراسات ونقاشات عدة في الغرب الأميركي والأوروبي، وكذلك في البلدان العربية، نظراً لتأثير تيارات الإسلام السياسي وحركاته في مجرى الأحداث الراهن في العالم. وفي هذا السياق يلقي كتاب سامي زبيدة «الشريعة والسلطة في العالم الإسلامي»، الضوء على جملة من القضايا التي تخص الإسلام والمسلمين، من خلال السعي إلى توضيح مفاهيم القانون ومؤسساته في المجتمعات الإسلامية تاريخياً، والمكانة التي احتلها الدين والشريعة في هذه المجتمعات. منطلقاً من اعتبار أن الهدف الأساسى كان لدى الكثير من الحركات الإسلامية، وبعض الحركات القومية، هو إعادة الاعتبار الى الشريعة بصفتها قانون المسلمين. وبالنسبة الى بعضها كانت هذه الخطوة في الأساس أحد مظاهر التقوى، أي واجبهم في تسيير شؤونهم بما يتفق مع التكليف الإلهي، في حين تركز الهدف الأوسع على استعادة ما كان يعتبر صحيحاً وملائماً أو أصالة. وعليه يستعرض المؤلف المعطيات التاريخية المتعلقة بتطور المفاهيم والمؤسسات القانونية، مع إيلاء اهتمام خاص للعلاقة بين السلطة السياسية والمرجعية الدينية، أي بين الخلفاء والسلاطين من جهة والعلماء والفقهاء من جهة أخرى. ثم يتعقب تطور مختلف عناصر القانون في علاقتها مع أنماط المجتمع والسلطة، والتركيز في شكل خاص على التاريخ العثماني. وينتقل بعدئذ إلى فترة الإصلاح الحديثة، والحداثة السياسية والقانونية، وتأسيس الدولة - الأمة.
ويرى المؤلف أن القانون عاش تحولاً في ظل الأنظمة الحديثة، حيث ان ما تركز عليه الشريعة من دوائر دينية ومؤسسات وخطابات قد شهد انزياحاً لمصلحة تنظيم القانون ودولنته تحت سلطة الدولة. وحتى مع الاحتفاظ بالشريعة أو ببعض عناصرها، فقد حدث التغير في طبيعتها بحكم انفصالها عن مرتكزها الديني وتحولها إلى قانون دولة، وخضوعها للتشريع والتعديل على أيدي أجهزة الدولة. وفي حين أن الكثير من هذه التطورات قد حدثت بضغط من قوى أوروبية مهيمنة منذ القرن التاسع عشر، فإنها كانت في الوقت نفسه منسجمة مع مقتضيات التطورات الحديثة للاقتصاد والمجتمع التي باتت مندمجة في السوق الرأسمالي العالمي.
وشكلت المرحلة الحديثة قطيعة جذرية مع النماذج التاريخية للقانون والدين ونظام الحكم. وهذه القطيعة لا تتجلى فقط في تبني الصيغ الحديثة للقانون، بل أيضاً في اقتراح سن قوانين الشريعة، أو بعض عناصرها، وإدراجها ضمن قانون الدولة، وفي صيغ للشريعة يدافع عنها أيديولوجيون وإسلاميون. ويرى المؤلف أن الأيديولوجيين الإسلاميين، من إصلاحيين وحداثويين وراديكاليين وأصوليين على تنوعهم وتناقضهم، يتشاطرون رفضهم العام لتعاليم الفقه التاريخي لمصلحة الاجتهاد المستنبط، كما هو مفترض، من المصادر القانونية للقرآن والسنّة، التي تقرأها الأيديولوجيات المتنافسة في شكل متباين جداً. والأساس المنطقي لهذه المساعي ليس المنهج أو نمط التفكير الديني التقليدي بل الأيديولوجيا السياسية. وفي هذا المجال يتابع المؤلف هذه العملية من خلال دراسة التطورات الراهنة في كل من مصر وإيران.
ويحاول المؤلف تلمّس الملامح العامة، الأيديولوجية والفلسفية والسياسية والقانونية والاجتماعية، وأحياناً، النفسية، التي تسم المقاربات القديمة - الجديدة الداعية إلى «العودة إلى الإسلام»، معتمداً منهجاً يقوم على طرح الأسئلة الصحيحة، بصفتها أساساً منطقياً لمشاريع أجوبة هي برسم الجميع، ما دامت الأزمات الراهنة، وفي القلب منها أزمة الإسلام المعاصر، تشكّل العلامات الفارقة لمجتمعاتنا. ويعتبر أن التحدي المطروح أمام الفكر والممارسة الإسلاميين يكمن في خوض المعركة تجاه الذات أولاً وأساساً، من خلال الكف عن معاكسة اتجاه التاريخ، وتبني روح الإصلاح والانفتاح، والتكيف مع المستجدات المتسارعة، بعيداً من فكرة الصراع التدميري بين الأفكار التي تروق للكثيرين ممن يريدون صرف الانتباه عن الاتجاه الفعلي لحركة الواقع ومعطياته، كل خطوة تفاعلية مع الحياة - كما مع الآخر - من شأنها تجاوز خطوتين من الجهل بكل منهما. وتجري مقاربة الواقع في البلدان الإسلامية من خلال أمثلة عيانية، كالمثال العثماني والمصري والسعودي والإيراني، على رغم خصوصية النموذج الأخير، أو تمايزه النسبي عن التجارب الإسلامية الأخرى.
ويقرر المؤلف أن «الإحياء الإسلامي» الذي رافق العقود الأخيرة من القرن العشرين، منذ السبعينات من القرن الماضي، تميّز بالدعوة إلى تطبيق الشريعة باعتبارها الهدف المركزي مستنداً إلى أنه لكي يحيا المسلم حياة صالحة، لا بد له من أن يطيع أوامر الله، ولن يكون ذلك ممكناً فعلياً إلا ضمن مجتمع من المؤمنين يأتمر بأحكام الله في علاقاته وتعاملاته الاجتماعية، وهذا ما يلزم السلطة الحاكمة أن تحكم بناءً على ما أنزل الله. بينما قد لا ينسجم مثال الجمهورية الإسلامية مع الرؤية العامة التي تقول إن الإسلام «حضارة» كاملة، ليس بصفته ديناً فحسب، بل نظاماً سياسياً واجتماعياً، جوهره الشريعة الإلهية المُنزلة. ويدافع عن هذه الرؤية بعضُ النقاد الغربيين الذين يتبنون موقف «صدام الحضارات»، وكذلك الإسلاميون الذين يصرون على شمولية الإسلام ووحدته التي لا تتجزأ، وثمة نوع من التعايش الأيديولوجي بين هذين الطرفين اللامتجانسين. وعليه فإن «المجتمع الإسلامي»، من هذا المنظور، لا يخضع من زاوية علم الاقتصاد أو علم السياسة أو علم الاجتماع، بل يعامل على أن الدين هو جوهره المحرك، ومحدد مساره، وأن القانون المقدس هو الجزء الأساس لهذا الجوهر. وهو ليس مجرد قانون، وإنما «خطاب شمولي» يفصل في قضايا الأسرة والأخلاق والشعائر والسياسة. ولهذا السبب اعتبر إرنست غلنر المجتمع الإسلامي، خلافاً لأي مجتمع آخر في العصر الحديث، عصياً على العلمانية.
ويحدد الكتاب تاريخية الخطاب والممارسة في الشرع الإسلامي، ومسارات التطور والتغيّر في سياقات تاريخية مختلفة. وعلى رغم إخلاص الفقهاء الدائم لفكرة المصادر المقدسة للشريعة، لكنهم غالباً ما كانوا يبدون مرونة في تكييف الصيغ المستنبطة بما ينسجم مع مستلزمات مجتمعاتهم المعاصرة وكذلك الأحداث الطارئة للسلطة. كما أظهرت الشريعة بالفعل تنوعاً ملحوظاً في الزمان والمكان، الأمر الذي يتعارض مع فكرة الإصرار على وحدتها وأبديتها. هذا الكتاب ليس تاريخاً في حد ذاته، لكنه ينقب في التاريخ عن أحداث مهمة توضح نشوء الشريعة وتطورها في سياق علاقات السلطة والنزاعات والتسويات بين الأطراف الرئيسة الفاعلة، أي الحكام والفقهاء والعلماء والمشرعين وحماة الشريعة.
وخلافاً للرأي القائل إن الإسلام دين ودولة في آن معاً، يعتبر المؤلف أن الشريعة، في بداية انطلاقتها، لم تكن صنيع مشرّعي الدولة والحكام، وإنما نتاج أفراد أتقياء مستقلين، غالبيتهم من التجار والحرفيين الذين التمسوا العيش وفقاً لأحكام الله، بعيداً من الحكام وبطانتهم الآثمة والفاسدة. وتظهر المطالبة بالشريعة في وجوه متعددة، فالمعارضون أصحاب النزعة الاجتماعية يلتمسون من أحكام الشريعة عدالةً تقيهم من الأنظمة الفاسدة، ورجال الدين يتطلعون إلى استعادة سلطتهم من خلال فرض الشريعة، والمحافظون يبتغون المزايا البطريركية من أحكامها، فيما يعتبرها القوميون معلماً للأصالة والهوية، وهؤلاء الحكام الفاسدون أنفسهم يتبنونها التماساً للشرعية. إنها، في الواقع، مشروع أيديولوجي له تجليات شديدة التغيُّر على صعيد الميول السياسية والنظم القانونية في مختلف البلدان.

عمر كوش

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...