الشارع شريطٌ إخباريّ.. وصوته ملغّم بالشتائم
من يعبر شوارع دمشق، وأينما كانت وجهته، سيصل إلى نتيجة واحدة: الشارع صار شريطاً إخبارياً. راديو باصات النقل، سيارات الاجرة، الاكشاك العشوائية، التلفزيونات في المحال التجارية، كلها تخبر وتحلّل وتندب المأساة الإنسانية في غزّة. يكفي أن تسأل سائقاً »شو الأخبار؟«، حتى يقرأ عليك الأنباء بالتفصيل حتى الساعة.
لا يكاد يمر يوم على مأساة غزّة، بدون أن تخرج المظاهرات في الشوارع السورية. غضب يحرق علماً لا تعرف من أين يأتون به، مع كل المسوغات والمبررات لظهوره. صراخ على تخاذل عربي إزاء الدم النازف، وعلى العالم الذي يشاهد المجازر بدم بارد. المظاهرات تخرج كل يوم في المدن السورية، وهيثم، سائق سيارة الأجرة الشاب، لم يخرج في أيٍ منها، فبرأيه: »لا فائدة من الصراخ، فإما أن يكون هناك فعل حقيقي أو لا«. هذه الجذرية في رؤية الشاب تقوده الى حلٍ واحد: »الحرب«. وإذا حدثت، يتابع هيثم: »قلنا لأمي، نحن خمسة شباب وأبي، نترك لك واحداً كي لا تبقي وحيدة اذا حصل الأسوأ، ونذهب جميعاً للقتال، وأنا أول واحد«.
كلام هذا الشاب احتاج وقتاً ليتسرب إلى لسان الشارع، أو بالأحرى ليفرج عنه الإعلام بوصفه صوتاً من هنا. مظاهرة صارت »مليونية« في دمشق بعدما قلبت غزّة اليوم الثاني عشر من رزنامة عذاباتها. وبعد ذلك، صار يمكن أن تسمع امرأة تهتف: »سلّحونا سلّحونا، على غزّة ابعتونا«، أو طفلاً يريد »رأس الخائن...« قبل أن يقطع التلفزيون الرسمي اللقطة وينقلها الى مشهد تظاهرة أخرى. كانت فرصة أمام الشارع ليصوب ذخيرة شتائمه الى جهة اخرى غير إسرائيل وأميركا.
خبر غزّة هو الخبز المرّ للحديث اليومي. الأسواق مفتوحة على مشهد التلفزيون الذي يقبع في صدر المحل، يعلو صوته على مسمع البضائع المكدسة وحدها، أو صاحبه الذي يزوره ليتزود بالجديد.
الاستياء حدا بالبعض الى وسائل شخصية تميّز استنكاره. وسائل مقتبسة أو مكررة. فالحدث، على جلله، لم ينبت في المخيلة الشعبية جديداً. ربما لم تعتد تلك المخيلة العمل في ظروف كهذه. فسياق التضامن حصر بالتظاهر، صراخاً، أو شتماً في اتجاه سياسي مؤات. والمبادرة الشخصية هنا ليست في البال. في أكثر من شارع وجد بعض الشباب في تثبيت علم إسرائيلي، يعترض خطى المارة على عرض الطريق أحياناً، وسيلة تعبير. العلم صار مداساً مفضلاً لبعض المارة، اذ يبطئون ليدوسوه أطول مدة ممكنة، ربما غلّواً في النضال الرمزي.
في أماكن أخرى يسلك مدّ يد العون، إلى الأهل في غزة، السبل المتاحة. أخبار حملات جمع التبرعات تتردد في الإذاعات والتلفزيون المحلي. شركات الاتصالات تتعاون مع جامعي التبرعات، ليصير التبرع ممكناً في بعث »رسالة نصيّة فارغة«. إعلان يصف »أضعف الإيمان« الذي يمكن للقادرين عليه فعله. ومتطوعو الهلال الأحمر السوري، يمكن مصادفتهم يجمعون التبرعات في شوارع المدن السورية. ومن هذه الحملة تبرز صورة عامل نظافة يتبرع لأهل غزّة، كأن الصورة تقول أن لا عذر لأحد، وما من أحد عديم القدرة.
وقع أحداث غزّة جعل السوريين يستقبلون العام الجديد بلا احتفال. وإذا كانت قلّة من محبي حفلات رأس السنة بادرت لإلغاء حفلاتها، فإن وزارة السياحة حسمت الأمر، وعممت إلغاء كل الاحتفالات ومظاهرها تضامناً. القرار لقيَ صدى ايجابياً لدى الشارع. البعض أخذ عليه »تأخره«، وقليلون تحدثوا عن كونه »تدخلا في الحريات الشخصية«، و»أمر يفترض أن يكون مبادرة ذاتية وليس قراراً«. آراء كهذه، على قلتها، جعلت معلقي الإنترنت يستشيطون غيظاً، ويصبون اللعنات على من تجرأ وخالف.
في دمشق تحدث أشياء، وهي تحدث في أماكن غيرها. صدى لنشرة أخبار، كان باهتاً وارتفع بعد سماع أصداء أخرى تعلو. صراخ وصولاً الى اشتهاءٍ محدودٍ للسلاح، أفواه ملغّمة بالشتائم، بصمات أحذية كثيرة على عَلَم معادٍ، تبرعات، معونات، وكلها تفاصيل ربما تريح الناس كمسكن سريع لألم الشعور بالذنب. شعور يكفي لتوليد أن العيش لا يزال على عاداته، ولا تغير شيئاً تعاسة هذا العيش.
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد