الرأسمالية العالمية تتأرجح على الحافة
الجمل: يقوم البنك المركزي الأمريكي بتخفيض معدلات الفائدة , قابلا بذلك أكواما من الأوراق المالية التي تكاد لا تساوي شيئا من البنوك التجارية كضمانات لقروض طارئة , و يضخ مئات المليارات من الدولارات إلى الاقتصاد . إن المشكلة التي بدأت في الصيف الماضي في سوق الرهن العقاري الأمريكي الأضعف قد امتدت حول العالم , رافعة بدون رحمة سلم النوعية و هي تقوم بامتصاص الديون من المنظومة المالية العالمية كما تمتص النار الأوكسجين . لقد غرقت تدخلات البنوك المركزية الأمريكية و الأوروبية و اليابانية المبكرة لتثبيت الوضع في خضم المفاجآت التي رفعت هذه الأزمة إلى مستوى جديد .
تحدث الخبراء في نهاية الأسبوع عن خطورة انهيار المنظومة المالية لتجارة البيع بالجملة . حتى أن بعضهم ماثل بين الوضع اليوم و أزمة الدين التي سببت الكساد الكبير .
ما الذي يجري ؟ هل نحن ببساطة وسط تقلب جديد للاقتصاد العالمي الميال إلى حدوث انفجارات متقطعة لكن الذي يبدو دائما قادرا على أن يقف على قدميه من جديد ؟ أو أننا أمام حالة طارئة أكثر عمقا , تصل حتى قلب الرأسمالية الكونية المعاصرة ؟
قد تتمكن جهود الاحتياطات الفيدرالية الأمريكية الأخيرة من تثبيت الأسواق في الوقت الراهن , كانت أسواق الأسهم أعلى في الأمس بشكل واضح . لكن هناك سبب للاعتقاد بأن الأزمة هي نتاج لصعوبات عميقة في اقتصاد العالم .
ثلاثة عوامل أساسية – كل منها كانت تعمل طوال و اكتسبت زخمها خلال عقود – قد اجتمعت معا لتسبب هذه الأزمة . أول هذه العوامل هو انحراف ( زيادة ) إنتاجية الرأسمالية الكونية المعاصرة . الشركات العالمية مدفوعة بالمنافسة الكونية و السباق الذي لا يتوقف لتحسين الإنتاجية و تخفيض التكاليف , قد أتقنت إنتاج سيل يتزايد باستمرار من البضائع و الخدمات . و للتأكد من أن هذه البضائع و الخدمات سوف يتم شراؤها و أن هذه المصانع و الشركات ستستمر بالعمل يحتاج الاقتصاد العالمي إلى ضخ دائم من السيولة التي توفرها الديون الرخيصة .
ثانيا , أنه في العقود الثلاثة الماضية هيمنت إيديولوجيا المحافظين الجدد , التي تؤكد أن الأسواق معصومة من الخطأ و بالنتيجة كانت تزدري أي تدخل من جانب الدولة , على الفكر الذي يتعلق بالقضايا الاقتصادية خاصة في الولايات المتحدة . ألان غرينسبان , الذي كان رئيسا لمجلس البنك الاحتياطي الفيدرالي لفترة طويلة حتى عام 2006 , كان مدافعا متحمسا عن هذه النظرة , التي أصبحت أداة للإيمان أو الاعتقاد بالدوائر السياسية و الاقتصادية الأمريكية القوية – هذا أمر غير مستغرب بما أنها قد بررت ترك النخب الاقتصادية تسعى وراء مصالحها في مقابل تدخل محدود من جانب الدولة .
ثالثا , إن الكومبيوترات و برامجها الفعالة جدا , مع الاتصالات عبر الألياف الضوئية , قد سمحت لعرابي المال بإجراء معاملاتهم التجارية بطرفة عين حول العالم و خلقت الأدوات المالية – المشتقات , المقايضات , الاستثمارات البنيوية , و ما شابه – لتعقيد أعمال السيطرة . و في خدمة كل النوايا و الغايات , أدت هذه الأدوات إلى تشوش حدود ما نسميه بالمال . قبل عدة عقود كان رجال البنوك المركزية قادرين على الكلام بشكل محسوس و السيطرة عند الضرورة على الإمداد بالمال . الآن ما يعتبر مالا ليس واضحا على الإطلاق و هناك أشياء كثيرة تبدو على أنها , و تتصرف مثل , المال لا يمكن السيطرة عليها .
منذ انفجار شركات الدوت كوم ( الشركات العاملة على الانترنيت – المترجم ) و الركود الذي صاحبها في السنوات الأولى من هذا العقد , فإن هذه العوامل الثلاثة قد اجتمعت معا لتشكل خميرة ( محفزة ) سامة . تريد البنوك المركزية , لا سيما الفيدرالي الذي رأسه غرينسبان فيما مضى , أن تعيد الازدهار إلى اقتصادياتها الوطنية لذلك فهي تنظر إلى الجهة الأخرى حيث تخلق أشباه البنوك صرحا هائلا من الديون – صرحا ( أو ركاما هائلا ) عالميا مترابط بإحكام من أدوات الإقراض التي لا يمكن فهمها على نحو كامل . و ندرك اليوم أن هناك شيئا ما أقرب للاحتيال المستوطن يمد و يحث هذا العمل : شركات نفقات الديون مثل شركة مودي و ستاندرد و بور التي تعرض مضاعفة المبلغ ثلاث مرات – علامة الموافقة أو الرخصة على الأوراق المالية المدعومة بالأصول التافهة , البنوك الاستثمارية التي لا تضيف معظم التزاماتها إلى دفاترها , و كل فرد تقريبا في التجارة الذي يزن قيمة الأوراق المالية المعقدة بإرجاعها إلى الأرقام التي تصدرها نماذج الكومبيوترات التي لا سبيل إلى فهمها – و ليس بالعودة إلى الأسعار في الأسواق الفعلية .
هكذا فإن قواعد اللعبة قد تغيرت . لقد أصبحت منظومتنا المالية العالمية معقدة و غامضة بحيث أننا انتقلنا من عالم الخطر إلى عالم المجهول . في عالم الخطر يمكننا أن نحكم على المخاطر و الفرص باستخدام أفضل الدلائل المتوفرة لحساب احتمال نتيجة معينة . لكن في عالم المجهول فلا يمكننا تقدير الاحتمالات , لأننا لا نملك أي أساس واضح للقيام بمثل هذا الحكم . في الحقيقة قد لا يمكننا حتى أن نعرف ما هي هذه النتائج المحتملة . تستمر المفاجئات بالقدوم من المجهول , لأننا جاهلون أساسا بجهلنا . إننا محاطون بمجاهيل مجهولة .
ما يزال المعلقون و صانعو السياسة يتحدثون بعبارات الخطر . يقولون أن الأسواق تحتاج إلى إعادة تقييم و إعادة تحديد المخاطر الكامنة في الأوراق المالية و الشركات . لكن في الواقع فإن هذه الأسواق تعمل الآن تحت حالة المجهول . لا يعلم أحد بالفعل أين تقع حدود المشكلة , و ما هي المفاجئات القادمة , أو أية إجراءات ستكون مناسبة لإيقاف النزيف . و البنك الفيدرالي الأمريكي يرسم سياسته في الهواء .
لكننا نعلم مع ذلك أننا لا نتعامل مع مشكلة سيولة . إننا نواجه مشكلة مديونية ضخمة : فالبنوك و مؤسسات الاستثمار ليست قلقة كثيرا بخصوص تمويل استثماراتها القادمة , بل إنها تخشى على بقائها , لأن أصولها نفسها – خاصة القروض في دفاترها المالية – قد انخفضت قيمتها فجأة و على نحو دراماتيكي . في هذه البيئة فإن الأدوات التي بتصرف مصرفيي البنوك المركزية قد لا تعمل . يمكنك أن تشجع الناس على الاقتراض بضخ المزيد من المال في الاقتصاد لكن لا يمكنك أن تجبر الناس على أن يقرضوا .
يشغل توماس هومر ديكسون مقعد جورجي إغناتييف لدراسات السلام و النزاعات في جامعة تورنتو و هو مؤلف كتاب القلب رأسا على عقب .
ترجمة : مازن كم الماز
نقلا عن www.zcommunications.org/znet/ViewArticle/16995
إضافة تعليق جديد