الدين يعوق التقدّم عندما يتدخل في العلم
"هل الدين عائق للتقدم؟"، سؤال طرحه منطقي وقد حاول الإجابة عنه الكاتب تشارلز غورهام باختياره الديانة المسيحية نموذجاً للحديث عنه، لكنه اعترف في النهاية أن "الإلحاد فشل في جذب الناس" الذين يحتاجون الى ان يكون "لديهم تفسيرات من نوع ما".
حاول المؤلف في إطار صغير ومحدود أن يتحدث عن سلطة الكنيسة التي أخّرت تقدم العلم من الفلك الى الجيولوجيا والطب وما شابه، حتى التجارة عندما حرّمت الربا، واعتبر أنها شجعت الشعوذة والخرافات برفض الكثير من الاكتشافات ومحاربة مكتشفيها. حتى ان معظمهم تعرض للسجن او الحرق او النبذ. ناهيك بمحاكم التفتيش وما نعرفه عنها.
إذاً بالمختصر، اعتماداً على كتاب البروفسور اندرو ديكسن وايت "صراع العلم واللاهوت"، مستنداً الى ما ذكره عن العلماء ومعاناتهم، يخلص المؤلف الى ان "الدين يؤثر في الرجال والنساء ذوي الذكاء المتوسط" وان استنكاف هؤلاء عن النقد يقوّي الدين عندهم، ويعزز جاذبيته "على حساب الملكات العقلانية" وإن كان لا ينكر أن "تأثير القناعات الدينية الصادقة على حياة من يؤمنون بها" كان نافعاً بشكل ملحوظ.
ذكر المؤلف كوبرنيكوس ومحنته، إن جاز التعبير، عندما نادى بكروية الارض وتدخلت السلطة الدينية وهددته. ونيوتن ووليم روبرتسون سميث الذي حاول تحليل نصوص التوراة منذ 1881 وقدِّم الى المحاكمة بتهمة الهرطقة. لكننا نرى في النهاية ان الانسان هو من يقلب عقيدة هدفها الارتقاء بالانسان الى نقمة.
فلولا تحوّل الاكليريكيين سلطة، او تكافل سلطة السياسيين مع سلطتهم، لما حدث ما حدث، وان كل عقيدة عندما تتحجر في قالب معين تعتبر ان الخروج عنه يهددها بالإندثار تنتقل الى القمع والشدة، إن ملكت يدها بالطبع.
فإن كان المؤلف غورهام استشهد في كتابه بالعقيدة الشيوعية كمثال، عندما ذكر ان الكنيسة اصدرت عام 1949 التحريم على كل من ينتمي الى الحزب الشيوعي او يتعاطى افكاره بشكل من الاشكال، فإن الشيوعيين لم "يقصّروا" في ملاحقة المؤمنين وتحويل الكنائس نحو وجهة استعمال اخرى ومحاولة تحويل الانسان "كائناً غير ديني"، اي مارسوا كل ما مارسه الدين من قمع، عدا انهم اطلقوا عجلة البحوث العلمية وإن في اتجاه معين ولغاياتهم التي يرونها مهمة. اما حرية الفكر والمعتقد والفن وكل ما له علاقة بنفس الانسان، فكلها صادروها باسم العقيدة، التي تحولت فكرة مقدسة لا تقبل النقد. هكذا استُبدلت رموز برموز، مما يعني ان كل عقيدة تصل الى السلطة ستطبق الممارسات نفسها لأنها تتحول شبكة من النفوذ والعلاقات المتشابكة الخاصة بقلة قليلة.
هل الدين بحد ذاته عائق يمنع التقدم، بفعل قيامه على ما هو غير علمي؟ ربما. لكننا نعرف ان ملحدين يستشيرون العرّافات، فالالحاد إذاً ليس مقياس شدة الذكاء، ولنا في اخبار الحكومة الفرنسية التي استدعت عشية الحرب الاولى العرافة "مدام فريا" الى وزارة الدفاع، لتعرف مصير فرنسا، مثال على ذلك، وكان اعضاؤها ملحدين وماسونيين. نعود الى السؤال: ألأننا نتلقى الدين على أنه اليقين من دون مجادلة، يسكت حس النقد عندنا؟ ربما. مع هذا لا يسعنا إلاّ أن نرى اننا درسنا باليقين نفسه كل ما أُعطيناه في المدرسة، وكان شخص المعلمة أو الاستاذ له التأثير نفسه الذي يمارسه رجل الدين على الناس، وكان كل ما يقولانه في نظرنا يقيناً. مع أننا لم نكن نرى كروية الارض قبل ان تلتقط لها صور منذ زمن ليس ببعيد، ولم يكن في استطاعتنا ان نجزم بأن الهواء مكوّن من الطبقات التي درسناها لأننا لا نراه. إذاً اليقين في التعليم متشابه بين الدين والعلم عند من لم يختبر العلوم. وقد يقول قائل، ولكن العلم قائم على اثبات، وهذا ايضاً يكون احياناً موقتاً لتختلف النظرية بعد زمن. وإن بين العلماء من حارب كل جديد علمي بالشراسة نفسها التي حاربته بها السلطة الدينية قديماً، ولنا في خبر العالم كوخ مكتشف جرثومة الكوليرا أفضل مثال. فقد ظل احد منافسيه العلماء ينكر اكتشافه حتى بعدما شرب ماء فيه الجرثومة وأصيب بالكوليرا وشفي منه "بقدرة قادر"، لأن تلميذه الذي أيّده وشرب مثله توفى.
إذاً، التعنت سمة إنسانية لأسباب عدة، وفي العصر الحديث امثلة عدة على علماء اكتشفوا ما ينقض نظرية باتت من المسلّمات، فتلقوا السخرية والاتهام بعدم الدقة (في علم الآثار مثلا). فنقض أي نظرية يظن العلماء انها مثبتة، مغامرة عظمى، فكيف إن كان العلم يحتك بالدين؟ علماً ان الدين ادعى لنفسه علماً ومعرفة في ما ليس من شؤونه. لكن القصد ان كل ما يظنه الانسان قاعدة اكتسبت صدقية عنده، من الصعب نقضه.
هكذا يبقى الانسان هو المحرك واللاعب والجلاد والضحية. كلٌّ وحظّه في الزمن الذي صودفت فيه ولادته. وحسناً فعل المؤلف اذ اكد في النهاية "محدودية معرفتنا".
الكتاب جيد، وإن بدا قاسي التعابير احياناً، متعمداً القسوة مغفلا اموراً معينة. وقد ترجمته الاديبة ربى الصلح ترجمة امينة، بسيطة ودقيقة، وهو ما يمكّن قارئاً عادياً من مطالعته باهتمام. وقدّمه الاستاذ مكرم حنوش الذي ذكّر ببعض ما حصل عند العرب، كحرق مؤلفات ابن رشد، مؤكداً ان "الدين بمفهومه الخاطئ عائق للحرية والتقدم". ولكننا نعتقد انه لا ينفع الاستشهاد بالماضي فقط لنتقدم، وإن كان من رسالة يفترض ان تصل عبر هذا الكتاب الى دولنا، فكان الاجدى ان يحصل نقد مباشر ليؤتي النقد ثماره.
مي باسيل
المصدر: النهار
التعليقات
مال كوخ و مال الكوليرا؟
إضافة تعليق جديد