الحياة رأساً على عقب... إنها الحرب
يمكن اعتبار محافظة حلب «أكبر مجتمع محلي وسط الحرب السورية». ففي ظل الكثافة السكانية العالية التي كانت سائدة قبل الأزمة، لم يُشكّل نزوح قسم من أبناء المدينة فارقاً كبيراً. بقيت المدينة مكتظةً بنحو ثلاثة ملايين مدني موزعين على قسميها (معظمهم في القسم الغربي الخاضع لسيطرة الدولة). فيما يُقدر عدد سكان ريفها حالياً بمليونين.
المدينةُ التي طالما عُرفت بالغنى، لم تعُد كذلك. شحّت الموارد المالية، وأصيبت الأسعار بالجنون. تضاءلت كثيراً حالات تبرع الأغنياء للفقراء، بعد أن انخفض عدد الأغنياء الذين لم يغادروا المدينة. وشيئاً فشيئاً صارت معظم العائلات تتقبّل فكرة الحصول على المساعدات والمعونات الغذائية التي تقدمها المنظمات والجمعيات. تلاشت بنحو شبه تام الدعوات والولائم التي كانت قبل الحرب تقليداً دائماً لا يحتاج إلى مناسبة، واقتصر الأمر على دعوات نادرة تقيمها بعض العائلات في المناسبات الاجتماعية، مثل الخطوبة (وحتى هذه باتت تقام على نطاق ضيق يشمل الأسرتين فقط). تغيّرت طبيعة الطعام اليومي لدى الجميع، وسادت البقوليات. «المجدرة» صارت سيدة معظم الموائد. وعادت العادات التقشفية التي كان الأجداد يحرصون عليها إلى الظهور. صار طبيعياً أن يحرص الرجال على تقنين المياه عبر إغلاق الصنبور أثناء حلاقة لحاهم مثلاً. فضلاً حرص السيدات على الاحتفاظ بالخبز القديم وتجفيفه، ليكون قواماً لوجبات لاحقة مثل «العدس بحامض». وعموماً، كان للتحول الاقتصادي أثر كبير في معظم التغيرات الاجتماعية.
السلوك الاجتماعي
في حالة تبدو طبيعية في ظل الحروب، أصبح التواصل الاجتماعي مقتصراً على الدوائر الضيقة. وفي كثير من الأحيان بات محصوراً في نطاق الأسرة الواحدة، التي بدورها تخلخل نسيجُها. وسُجل ازدياد لحالات الطلاق في عائلات كانت ثرية، وتغير حالها. معظم هذه الحالات طاولت زيجات كانت قائمة أساساً على نوع من أنواع المصلحة. يقول أحد المحامين لـ«الأخبار»: «ثمة عدد كبير من أغنياء المدينة كانوا قد تزوجوا فتيات شديدات الجمال، ومن طبقة اجتماعية فقيرة أو متوسطة، وبعد ضياع أموالهم في ظل الحرب انعدمت الرفاهية المطلقة التي كانت زوجاتهم تحظى بها، فوقع الطلاق». وفي حالات أخرى، أدى انشغال الأزواج بهموم الحياة اليومية القاسية، واضطرار معظم الزوجات إلى ملازمة منازلهن نتيجة الوضع الأمني، إلى ظهور حالات خيانة زوجية «إلكترونية».
كذلك، رُصدت في الأحياء الغربية حالات زواج جنود صغار السن (يؤدون خدمتهم على الحواجز داخل الأحياء) بنساء يكبرنهم ويُقمن في تلك الأحياء، معظمهن أرامل. ليصبح بيت العروس مكاناً لإقامة العريس. أما في الأحياء الشرقية (الخاضعة لسيطرة المسلحين)، فقد أخذ بعض شيوخ المساجد على عاتقه مهمة البحث عن أزواج للفتيات والأرامل، بغرض «السترة». وبطبيعة الحال، ازدادت نسبة المحجبات داخل هذه الأحياء، على عكس الأحياء الغربية التي شهدت انخفاضاً في النسبة.
لم تعد سهرات الحلبيين خارج منازلهم تمتد حتى الصباح. في معظم الأحيان، تكون الساعة الثامنة مساءً موعداً لوصول الجميع إلى المنزل. الانقطاع الطويل للتيار الكهربائي، واضطرار الجميع لملازمة منازلهم مساءً، أسهما في خلق تواصل أكبر بين أفراد الأسرة. وفي ظل أزمة المحروقات، صار من الصعب تدفئة جميع غرف المنزل، وبالتالي صار أفراد الأسرة الواحدة يقضون المساء والسهرة في غرفة واحدة، ويتفرقون وقت النوم.
وفي ظل الوضع الاقتصادي، ازدادت نسبة مرتادي الحدائق والمتنزهات العامة، وانخفضت نسبة زبائن المطاعم. يقول أحمد: «اعتدت أخيراً أن أصطحب أسرتي كلّ يوم جمعة إلى إحدى الحدائق. نشتري بعض السندويشات، فتكلفنا 3000 ليرة (20 دولاراً). أما إذا قصدنا مطعماً، كما كنا نفعل سابقاً فلن أدفع أقلّ من 10000».
مفردات تخرج من «الخدمة»
وضعت الحرب بصمتها على منطوق الناس وعاداتهم الكلامية. ثمة مفردات صار استخدامُها نادراً. عبارتا «صباح الخير» أو «مساء الخير» اللتان كانتا تُستخدمان بكثرة أيام «الخير» تراجعتا أمام «السلام عليكم». ولوحظَ أيضاً عزوف النسوة الحلبيات عن استخدام عبارة كانت سائدة بكثرة قبل الحرب، وهي «تروح قتل» التي كانت تُستخدم من دون أن يكون مطلوباً تحققها. ففي كثير من الأحيان كانت الأمهات يقلنها لأولادهنّ لدى توبيخهم، وأحياناً كانت تُستخدم كوسيلة تعبير عن الإعجاب، كأن يُقال عن فتاة «تروح قتل ما أحلاها».
مفردات جديدة صنعتها الحرب
وثمة جمل ومصطلحات دخلت حيز التداول اليومي، بعضها لم يكن معروفاً من قبل، وبعضها كان محدود الاستخدام. ومنها كلمة «تشويل» التي يُلفظ فيها حرف «الشين» قريباً من «الجيم». ودرجَ استخدامها للدلالة على أعمال النهب التي يقوم بها مسلحون. ودرجت أخيراً مفردة «تلييف» للدلالة على المعنى ذاته، ولكن الفارق أنها تعني قيام السارقين بإفراغ المكان المسروق من كل شيء مهما كانت قيمته. وتركت حالات الاختطاف المتكررة أثرها في أذهان الناس. ومن الحالات اللافتة في هذا السياق، أنّ طفلة في الصف الأول الابتدائي، أنّبتها المُعلمة، فكان رد فعل الطفلة أن قالت بعفوية: «كو ها ببعت ناس يخطفوكي».
مفردة «تكبير» صارت تُستخدمُ دائماً، وباتت وسيلة للتندّر و«التنكيت». أما عبارة «الله أكبر»، فصار استخدامُها مستنكراً في بعض الأوساط، بسبب ارتباطها بالمسلحين. يقول فؤاد لـ«الأخبار»: «تسلمت جواز السفر بعد انتظار دام خمسة أشهر. راجعتُ خلالها فرع الهجرة والجوازات نحو عشر مرات، حتى فقدت الأمل في تسلمه. وأخيراً عندما قال لي الضابط: الجواز جاهز، صرختُ لاشعوريّاً: الله أكبر، من شدة فرحي. فصمتَ كلّ الموجودين في القاعة، والتفتوا نحوي. تسمّرت عينا الضابط عليّ بدهشة واستنكار. فارتبكتُ واعتذرت»!
الأفراح والمآتم
صار معتاداً أن يتزوج الناس من دون إقامة حفلة عرس، وخصوصاً في الأحياء الشرقية. اقتصرت الأعراس على الأحياء الغربية، وصارت تبدأ في الثانية ظهراً، ولا تستمر أكثر من السادسة مساءً (كانت سابقاً تبدأ منتصف الليل وتمتد حتى الفجر). وفي معظم الأحيان بات حضور الحفل مقتصراً على المقربين، ويقام في منزل أحد الأقارب. ثمة عدد قليل جداً ممن بقوا في حلب من الطبقة الثرية استمروا في إقامة الأعراس في صالات، مع تقلّص عدد المدعوين إلى ربع ما كان معتاداً، لأسباب عدة. أما الفقراء والنازحون، فأعراسهم تقام ضمن غرفة في مقر الإيواء، وغالباً ما تستعير العروس بعض الحلي المتواضعة لتتزين بها، ثم تعيدها صباح اليوم التالي.
كذلك، لم يعد أحد يقيم جلسات عزاء عامة في الجوامع أو الصالات، أو ينصب خيم عزاء في الشارع. بات العزاء مقتصراً على البيوت، ويحضره عدد محدود جداً من المقربين. واعتاد الناسُ هذه الحالة، وتقبّل أعذار الجميع.
صهيب عنجريني
المصدر : الأخبار
إضافة تعليق جديد