الحموضة: كيف نهزم نار الليل وألم الصباح؟
الحموضة شكوى طبية نعرفها جميعًا بلا استثناء، وعلى الأرجح فإن نصف قراء هذا التقرير على الأقل قد عانوا منها مؤقتًا، أو بشكل مستمر. لكي نفهم لماذا تحدث الحموضة، لابد أن نلقي نظرة سريعة على جهازنا الهضمي، تركيبًا ووظيفة.
جهازنا الهضمي، المسؤول عن تناول الطعام، عبارة عن قناةٍ طويلة، تبدأ بالفم فالبلعوم فالمريء، فالمعدة، ثم الاثنا عشر، ثم الأمعاء الدقيقة فالغليظة. تتلقى المعدة الطعام القادم من المريء، لتتم فيها عملية الهضم، وهي تقطيع الطعام، وتفتيته، بواسطة انقباضات عضلات المعدة القوية، والحامض المعدي القوي الذي تفرزه خلاياها. تفرز المعدة كذلك إنزيم الببسين الهاضم للبروتينات كالموجودة في اللحوم والدجاج. ولكي تتحمل أنسجة المعدة وجود مثل هذا الحامض المركز الحارق داخلها، فإنها مبطنة من الداخل بطبقة مخاطية سميكة تحميها من الحامض.
وللمعدة بوابتان على مدخلها جهة المريء، ومخرجها جهة الاثنا عشر، ويحرس كل منهما عضلة قوية. ما يعنينا هنا البوابة جهة المريء، والتي تسمى عضلة الفؤاد، وتمنع ارتجاع الطعام من داخل المعدة إلى المريء. من أهم أسباب الشعور بالحموضة، ضعف تلك العضلة، الذي يؤدي إلى ارتجاع الطعام شديد الحامضية من داخل المعدة إلى المريء، ومنه إلى الفم، وقد يصل إلى الحنجرة والجهاز التنفسي ليحدث التهابًا، وأعراضًا تشبه حساسية الصدر.
في حالات كثيرة من الحموضة الشديدة، يكون السبب وجود قرحة بالمعدة أو الاثنا عشر، حيث تتآكل أجزاءٌ من الطبقة المخاطية المبطِّنة لها، مما يجعل الحامضية الشديدة على اتصال مباشر بخلايا المعدة والاثنا عشر، فتجرحها، وتسبب آلامًا شديدة حارقة، وقد تسبب نزيفًا متكررًا نتيجة تضرر الأوعية الدموية في جدران المعدة والاثنا عشر.
مثل هذا النزيف المتكرر قد يكون غيرَ ملحوظ، ويسبب حدوث الأنيميا مع مرور الوقت، وقد يصبح في أي لحظة نزيفًا كبيرًا، يصل إلى حد حدوث القيء الدموي، ويحتاج لتدخل عاجل بالمنظار.
هناك أيضًا بعض الأورام النادرة في البنكرياس أو الأمعاء، تفرز كميات كبيرة من هرمون الجاسترين، المسئول عن تحفيز إفراز الحامض المعدي، مثل متلازمة زولنجر إليسون. يسبب هذا نوعًا شديدًا من الحموضة، وقرحًا متكررة بالمعدة والأمعاء، ومضاعفاتٍ خطيرة على الحياة مثل انثقاب المعدة أو الأمعاء، فيصل الطعام والعصارات الحارقة إلى الغشاء البريتوني، فتسبب التهابًا شديدًا، قد ينتج عنه الوفاة، ولذا تحتاج إلى تدخل جراحي عاجل.
تعديل نمط الحياة هو الحل
سأل رجلٌ أحدَ الأطباء الحكماء: أيُّ العلاجات أجدرُ بتحسين حموضتي يا دكتور؟! قال الحكيم: نمط الحياة الصحي، قال ثم ماذا؟! قال نمط الحياة الصحي، قال ثم ماذا ؟! قال: نمط الحياة الصحي، قال: ثم ماذا ؟! فنظر له الحكيم مليًّا، وعبث بسبابته في لحيته الكثَّة، ثم قال: نمط الحياة الصحي أيضًا … ثم العلاج الدوائي.
عاداتنا الغذائية تحتاج إلى تغيير جوهري، لنكبح جماح الحموضة
1. سنتخلى عن وجبة العشاء المتأخرة. سيكون آخر طعامنا اليومي قبل النوم بـ 3 – 4 ساعات. سيعطي هذا الفرصة للمعدة لهضم الطعام جيدًا، فلا يختزن منه في المعدة ما يسبب الحموضة والارتجاع.
2. سنتخلى عن الوجبات الثقيلة، التي تملأ المعدة بالطعام عن آخرها، فتزيد كمية العصارات الحارقة التي يتم إفرازها، وأيضًا تسبب تباطؤ عملية الهضم، وبذلك اختزان الأطعمة لمدد أطول داخل المعدة، فتزيد فرص حدوث الارتجاع. سنقسم طعامنا على مدار اليوم على عدة وجبات صغيرة، موزعة جيدًا حتى لا نشعر بالجوع.
3. سنتخلص من السمنة، لأن كل كجم نفقده من الوزن الزائد، سيقلل من احتمالات حدوث الحموضة، ومن شدتها ومضاعفاتها إن حدثت. فالدهون الزائدة في البطن، تزيد الضغط داخلها أثناء النوم، فترفع فرص حدوث الارتجاع.
4. زيادة حصة الأطعمة والإضافات التي تقلل الحامضية المعدية، مثل اللبن، الموز، الشمر، القرنفل، الكمون، الزنجبيل، عصير جوز الهند. وتجنب – أو على الأقل تقليل – الأطعمة التي تزيد الحامضية مثل الأطعمة الحرِّيفة، والمحمرات، بمختلف أنواعها.
5. تجنب الأدوية التي تسبب زيادة الحامضية، وقرحة المعدة، إلا لضرورة طبية، وحينها يتم تناولها وسط الطعام، لتقليل آثارها الجانبية. من أشهر تلك الأدوية المسكنات، والأسبرين.
بجانب العادات الغذائية الصحية، فممارسة الرياضة المعتدلة بشكل دوري، يساهم أيضًا في علاج الحموضة، ولو بشكل غير مباشر عن طريق المساهمة في حرق الدهون، وإنقاص الوزن. كذلك التدريب على التحكم في الانفعالات والتوتر الشديد مطلوب، حيث إن الانفعال المستمر، يسبب زيادة إفراز الحامض المعدي بشكل مباشر، وفرص حدوث القرح، بجانب التأثير غير المباشر لدى بعض الناس، حيث يفتح الشهية للتناول المفرط في الطعام.
الدواء؟
للعلاج الدوائي دوره في علاج الحموضة في حالة عدم كفاية خطوات تحسين نمط الحياة في القضاء عليها. ولا مفر من التأكيد مرةً أخرى أن دور العلاج الدوائي لا يغني أبدًا عن النصائح السابقة، وأيضًا على عدم تعاطي علاجات الحموضة بناء على نصيحة بعض المجربين من المرضى، إلا بعد أخذ المشورة الطبية لاختيار الدواء المناسب لكل حالة.
في حالات الحموضة البسيطة، قد لا نحتاج لأكثر من تعديل نمط الحياة، مع بعض العلاجات الموضعية البسيطة مثل الفوَّارات المعروفة، والتي تعادل الحامضية المعدية بشكل سريع ومؤقت، ومنها بعض الأنواع التي تقلل إفراز الحامض المعدي، مثل الرانيتيدين والفاموتيدين.
في حالات الحموضة التي يصحبها ارتجاع شديد بالمريء أو قرح بالمعدة أو الاثنا عشر، سنحتاج لتناول الأقراص الدوائية المضادة للحموضة بشكل دوري، ومنها مجموعتان رئيستان .. مضادات الهيستامين مثل الرانيتدين، والمجموعة الأقوى وهي مضادات ضخ الهيدروجين، مثل الأوميبرازول، والبانتوبرازول وغيرها.
في حالة استمرار مشكلة الارتجاع وما يصاحبها من حموضة، لابد حينها من طلب المشورة الجراحية، حيث تحتاج بعض الحالات إلى إجراء عملية جراحية لتضييق فتحة الفؤاد لمنع الارتجاع، أو قد يظهر أن سبب الارتجاع المستمر هو سبب جراحي، مثل فتق بالحجاب الحاجز يسبب انزلاق المعدة لأعلى.
في حالات القرح، لابد من التأكد من عدم الإصابة بجرثومة المعدة والتي تسمى الجرثومة الملويَّة البوَّابية. أكدت بعض الأبحاث، أن تلك الجرثومة مسئولة عن أكثر من نصف حالات القرح المعدية والمعوية حول العالم، حيث تستوطن المعدة والأمعاء على مدار سنين، وتتلف الطبقة المخاطية الحامية لها، فتسبب حدوث القرح، ومضاعفاتها. لا يتم تأكيد التشخيص بشكل قاطع إلا من خلال المنظار العلوي، وأخذ عينة من بطانة قرح المعدة، وفحصها، وعمل مزرعة بكتيرية عليها، لكن يمكن الشك في وجودها ببعض اختبارات الدم الكاشفة للأجسام المضادة لها.
تحتاج قرح المعدة المصاحبة للإصابة بتلك الجرثومة إلى علاج مكثف لأسبوعين على الأقل، بجرعة كبيرة من مضادات ضخ الهيدروجين، مع مضاد حيوي أو اثنين ضد جرثومة المعدة.
الخلاصة
تبني نمط حياةٍ صحي شامل، وطلب المشورة الطبية السليمة في الوقت المناسب، كفيلان بهزيمة الحموضة التي أصبحت أحد أهم أمراض العصر.
إضافة تعليق جديد