الحضور الإنساني في النص القرآني
تبدو فكرة الخلاص حاجة إنسانية إزاء شعور المرء بأن هناك غاية معينة للحياة تعد الأكثر أهمية بين كل الغايات الأخرى، والتي تعد قياساً إليها، غايات ثانوية أو لا قيمة لها، وشعوره كذلك بخطر فقدان هذه الغاية الكبرى، ومن ثم فقدان المعنى الخاص لوجوده. وعلى رغم أن فكرة الخلاص قديمة قدم الإنسان الأول الذي قدم القرابين، حتى البشرية منها، إلى الآلهة الوثنية والظواهر الكونية كي تحفظ له وجوده، أو تمنح له معنى، فإنها اكتسبت حضوراً طاغياً في الدين التوحيدي، لأن الأخير يضيف إلى الوعي الإنساني عالماً جديداً هو عالم الغيب، الذي يشهد البعث والخلود، والثواب والعقاب، ما يجعل فكرة الخلاص أكثر محورية، والوجود أكثر امتداداً وتكاملاً وعمقاً، ويعيد صوغ القضية على نحو أوضح في سؤال أبدي هو: ما الذي يعطي الإنسان الأمل في الخلاص، أي النجاة من العقاب الأخروي في عالم الغيب، بعد أن تكتمل دراما وجوده في عالم الشاهد؟ هل يكفي عمله وسلوكه الأخلاقيان هنا على هذه الأرض لخلاصه؟ أم يصير هذا الخلاص رهناً بأسباب أخرى تجعله في حاجة إلى وساطة غير الله للبراء من أوزار لم يرتكبها، وأخطاء لم يفعلها، لأنها سابقة على وجوده؟ وهنا ثمة فروق بين شرائع الدين التوحيدي الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلامية.
ففي اليهودية يتشوه إدراك اليهودي لقدرته على تحقيق الخلاص الذاتي، إزاء عجز اليهودية عن إنجاز صيغة فعالة ومتسامية لعلاقة الله بالبشر, إذ كان «يهوه» مشدوداً دوماً إلى الفلك الإنساني، ليس من موقعه العلي المتسامي على النحو الذي تقتضيه «العناية الإلهية»، ولكن من داخل هذا الفلك البشري وعلاقاته وشروطه، فهو يحمل كثيراً من صفات البشر, فيمكن تخيله, كما يمكن تحديده, بل الدخول معه في صراع، ويحكي سفر التكوين كيف تمكن يعقوب، عبر مصارعته لله - تعالى شأنه - من الحصول على الوعد بالملك والاختيار، أي بملكية الأرض المقدسة، وتتويج الشعب اليهودي كـ «شعب الله المختار»، الذي اختصه الله بألوهيته، مقابل أن يختصه بنو إسرائيل بعبوديتهم له، فصار «يهوه» إله «بني إسرائيل» وحدهم من بين العالمين، وفي المقابل صار بنو إسرائيل شعب «يهوه» وحده من بين الآلهة، وهنا أضيفت العنصرية الى الوثنية كآفة مصاحبة لها، أو مترتبة عليها.
وعلى رغم أن اليهودية استطاعت، بعد تاريخ ملتبس وعبر مسار متعرج، الخلاص التدريجي من آفة الوثنية والتحرك صوب التوحيد منذ عصر النبي أشعيا الثاني في القرن السادس ق.م، والذي اقترب من التنزيه في صوغ موسى بن ميمون للعقيدة اليهودية تحت التأثير الإسلامي الحاسم في العصر الوسيط، فإنها لم تستطع قط البراء من آفة العنصرية التي ظلت مصاحبة لها حتى اليوم، لتجعل منها ديناً مغلقاً يرفض أتباعه التبشير به، ضناً به على الآخرين، ليبقوا وحدهم، شعب الله المختار. هذه الخيرية إذ تُعطى للإنسان حتى قبل مولده، ولمجرد أن ولد يهودياً، وقبل أن يكتمل وعيه، أو يُعمل إرادته على النحو الذي يبرر اكتسابه تلك الخيرية، فإنها تنفي القدرة الخلاقة والإيجابية لحرية الإرادة الإنسانية إذ تعفيها من تحمل مسؤولياتها. فالخيرية السابقة على الوجود والفعل تحرم الإرادة من حضورها الأخلاقي في التاريخ، لأنها تنفي أي قيمة موضوعية لهذا الحضور الذي يبدو مكملاً وعرضياً، على هامش المسار التاريخي الذي تحدد سلفاً، قبل حضور الإنسان وبغض النظر عن تصوراته، أو أفعاله، أو مثله، ومن ثم فلا معنى هنا لحرية الإرادة.
وفي المسيحية، نجد صورة نقيضة في ما يتعلق بدور الإنسان وموقعه في الوجود. فحضور المسيحي في التاريخ أكثر ضعفاً وذبولاً، لأنه لم يأت إليه مختاراً، بل محملاً بالخطيئة الأولى/ الأصلية، كقيد لا خلاص منه، عبر إعمال إرادته الحرة مهما كانت قوية، أو إيمانه الفردي/ الروحي مهما كان عميقاً، فلا بد من تدخل قوة خارجة عنه تحمل عنه الوزر وتمنحه الشفاعة وتأتيه بالخلاص. وهو لأجل ذلك يخضع لسلطان الكنيسة التي تبقى واسطته إلى السماء، كما يتقبل عقيدتها الرسمية التي تذهب إلى تأليه السيد المسيح الذي بذل حياته على الصليب لأجل خلاص البشر، طالما ظلوا مؤمنين به، ومجسدين لحياته على الأرض، إذ يستطيعون عبر طقوس وعقائد كالتعميد، والقربان، والعشاء المقدس، الاندماج فيه تمهيداً لحلوله فيهم.
وإذ تصوغ الكنيسة هذه العقائد، وتحدد كيفية ممارستها باعتبارها وكيل السيد المسيح على الأرض، تصبح هى راعية الإيمان والرقيب عليه، فلا إيمان من دون رعايتها ورقابتها ووساطتها.
ولعل أسئلة من قبيل ما إذا كان الخاطئ «يبرأ» من خلال أعماله أم من خلال إيمانه، وما إذا كان من الممكن أن يتيقن من الخلاص أم يقتصر على أن يأمل فيه، كان لها دور كبير في حفز الحركة البروتستانتية، وتشكيل أفكار مارتن لوثر كينغ الذي فسر السقوط بأنه مسخ للطبيعة وزيغ فيها، وعزاه إلى الشيطان، خلافاً لكالفن الذي عزاه إلي مشيئة الله لحكمة يعلمها في سابق أزله. وسمحت حرية البحث في العصور الحديثة لبعض الفقهاء والمفكرين المسيحيين بأن يشككوا في مسألة الخطيئة، غير أن النقد الجذري لها لم يكن ممكناً أو مؤثراً قبل عصر التنوير الذي عمّق النزعة الإنسانية في الوعي الغربي، وجعل الفرد قطب الوجود الأساسي، بل ومركز الكون، وإن كان ذلك باسم العقل، وليس بإلهام الدين. ففي رسالته عن التسامح تجاوز جون لوك، كمثال، المفهوم المسيحي عن الخلاص باعتباره «ذلك الطريق الضيق الذي لا طريق سواه، والذي يؤدي إلى السماء، لا يعرفه القاضي بأفضل مما يعرفه كل إنسان لنفسه، لذلك لا أستطيع أن أتخذ من هذا القاضي - وأنا مطمئن - هادياً يهديني لأنه قد يكون على جهل بالطريق مثل جهلي، واليقين هو أنه أقل اهتماماً بنجاتي مني بنجاة نفسي». وعلى منواله نسجت فلسفة التنوير فبلغت حرية الإرادة، وذاتية الخلاص ولكن على حساب الإيمان المسيحي التقليدي، الذي توارى إما خلف تيارات إلحادية تماماً، أو نزعات لا أدرية، أو حتى تأليهية عقلانية ترى في الألوهية فرضاً علمياً لتفسير الكون، بأكثر مما تراها حقيقة تبعث دفء الإيمان.
وأما الإسلام، فيقدم صورة بالغة الحيوية لحياة الإنسان على الأرض، عبر صورة بالغة السمو لـ «الألوهية» في السماء، مؤسساً منذ القرن السابع للميلاد، لذلك الإدراك الذي بلغته عقلانية القرن السابع عشر، ومن دون تجاوز إلى الإلحاد أو الإيمان الأداتي البارد لعصر التنوير وما بعده. فالله في الإسلام هو الواحد الأحد الذي ليس كمثله شيء في الأرض أو في السماء، وهو رب العالمين. والمسلم لا يتمتع مسبقاً بأي نوع من الخيرية الزائفة كاليهودي، لأن الإسلام لا يتصور معتنقه مختاراً في شكل مسبق ونهائي، لأنه دين إنساني، وفكرة التفضيل السابقة على الوجود لأي فرد أو شعب أو جنس لا تعدو نوعاً من العنصرية المقيتة، ولا يمكن فهمها في سياق دين إنساني. ولكنه، في المقابل، مولود بغير خطيئة أصلية تثقل كاهله ولا يوجد لديه هذا الشعور بالإثم والدونية كما هما لدى المسيحي التقليدي. نعم يحكي القرآن عن خطيئة آدم وحواء والأكل من الشجرة، بيد أن الإسلام لا يؤيد الاعتقاد القائل بأنها خطيئة أصلية تتابع النوع البشري الذي بات، من جرائها، ذا طبيعة فاسدة مدنسة محكوم عليها بالدونية، بل يقول القرآن إن آدم نفسه الذي ارتكب الزلة الشيطانية، أصبح أول الأنبياء، أما خروجه من الجنة فلم يكن سقوطاً بالمعنى المسيحي للكلمة وإنما هو ذريعة لخلق أفق الإنسان الواسع، وتبرير لبدء الملحمة الأرضية، ملحمة الاستخلاف الإنساني، على الأرض.
وفي مقابل رفض الإسلام للخطيئة الأولى، فإنه يرفض فكرة «المخلص»، لأنها تعارض تصور الإسلام للذات الإلهية، ولمعنى النبوة، وللوجود الإنساني، أما المُخَلَّص الحقيقي للمسلم فهو عمله الإنساني على الأرض، فالطريق إلى البراء من الشرور وإدراك النعيم الأخروي مفتوح لا تسده عثرات، ولا تقف دونه موانع، وزاده ليس سوى الإيمان الحر، والحساب النهائي يخص الله وحده، وله فيه ميزان عدل لا يخطئ، ربما أصاب المسلم فينجو، وربما تعثر، وعندها فأمره مردود إلى الله ورحمته التي تسبق عدله، والمسلم التواب محبوب من الله مفضل عنده، لأن في توبته شعوراً عميقاً بألم الإثم الذي ارتكبه على رغم حلاوته في نفسه ورغبته العميقة فيه، وهو إذ يتوب عنه ويقلع حباً في الله وخشية له، يضع حبه لله قبل حبه لذاته بما في ذلك من ألم يعانيه، وهو ما يدركه الله فيحب العبد ويرحمه مهما تكرر خطأه، تقديراً لألمه النبيل، فالله هنا هو واسطة المسلم الوحيدة إلى ذاته العلية بميزان رحمته طالما أن العبد أسلم وجهه إلى ربه فلم يشرك به أحداً.
وهكذا ينبع الخلاص في الإسلام من جماع تصوره التوحيدي لطبيعة «الألوهية»، وجوهر العلاقة بين «الله» و «الإنسان». فمن ناحية ثمة فجوة بين الله والإنسان لا تسمح بعارض من عوارض الشرك والمشابهة، ولا تجعل لله مثيلاً في الحس ولا في الضمير، فليس كمثله شيء. غير أن سبيل الإنسان إلى السعادة الحقيقية هو أن يلتمس الطريق الذي يعينه على عبور هذه الفجوة. وليس صحيحاً، كما يذهب البعض من المستشرقين، أن الإسلام يرى أن الله سبحانه بعيد بعداً لا متناهياً عن الإنسان، لأن ذلك ليس سوى فهم متطرف لفكرة تعالي الله التي تفرضها عقيدة التوحيد، وكأن هذا التعالي يحول دون العناية الإلهية، وهذا فهم خاطئ لأن تعالي الله ناجم عن قدرته اللامحدودة، وهي القدرة التي تجعل عنايته بالإنسان أيضاً لا محدودة. هذا التعالي إذاً لا يحول دون وجود علاقة قرب بين الله والإنسان طالما لم تختلط بالتشبيه أو التجسيد، والإنسان إذ يسعى إلى رتبة أعلى من الإيمان (الإحسان)، فإنه ينزع إلى مراقبة الله والفناء في محبته، لا من طريق تجسيده في الشكل، ولكن بتطبيق السلوك الذي يليق بمشيئته والذي يمثل، بالقطع، ترقية مهمة للحضور الإنساني على الأرض نحو صفات الله الحسنى باعتبارها المثل العليا لأخلاقيات المؤمن، وصرح الله بهذا في حديث قدسي: «لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه». وتلك هى العلاقة «الخلاّقة» التي يرسمها محمد بإصرار، ويصوغها الإسلام برهافة بين الإله المتسامي، والإنسان العاقل، إذ تدمج العقل والحرية بالإيمان والرحمة في مزيج رائق شفاف يتجاوز التجسيد والتشبيه، كما يتجاوز الجبر والعدمية.
صلاح سالم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد