الحرب «شرّدت» الغجر إلى أحياء دمشق الشعبية
في غرفة بالكاد تصلح للعيش، وسط شارع الثورة، تقيم نور وهي شابة «غجرية» نزحت مع عائلتها المكونة من ثمانية أفراد من المعضمية، بعد أن تنقّلت في عدة حدائق عامة، حتى استقرت أخيراً في فندق شعبي تحول إلى قبلة غالبية العائلات الغجرية.
الغرفة الضيقة لا تتسع للجميع، ولا تحتوي على أثاث كثير باستثناء بعض الوسائد والفرش والقليل من أدوات المطبخ، لأن سكانها ــ باستثناء الأب ــ يقضون يومهم في الشارع ولا يعودون إليها إلا ليلاً للنوم.
تشرح نور أنها مُطلّقة منذ نحو أربعة أشهر، وتخشى تزويجها مرة ثانية. الفتاة التي قالت إنها في الثالثة عشرة من العمر، أُجبرت على الزواج منذ نحو عام، وحين انتقلت للسكن لدى عائلة زوجها، تعرضت للتعنيف، ولهذا قررت العودة إلى أسرتها. وتوضح أنها اعتادت ظروفَ عائلتها الصعبة وظلمَ والدها، وهي أفضل من حياتها مع العائلة الجديدة.
نور حافظت على مهنتها بعد الزواج، وهي التسول، غير أنه بات مطلوباً منها توفير مبلغ أكبر لسداد إيجار الغرفة الزوجية، وهي لم تعرف يوماً مهنة أخرى، ولم تدخل قطّ أي مدرسة. وتغصّ يومياتها بالمعاناة من ظروف الطقس السيئة والجوع، إلى جانب نظرة الناس الدونيّة لها، وتعرّضها للعنف من بقية أولاد الشارع، وأحياناً كثيرة للتحرشات الجنسية.
حكاية الفندق
في الفندق ذاته توجد أعداد كبيرة من العائلات التي نزح بعضها من ريف دمشق، وخاصة المعضمية، وبعضها من أرياف حلب وإدلب، ومعظمهم وصل إلى هذا الفندق بعد عدة تنقلات في مختلف مناطق العاصمة.
ولا يشبه هذا الفندق بقية الفنادق، فهو لا يوفر أي خدمات للنزلاء، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يصل إلى حد افتقاد الغرف للحمامات، إذ توجد مراحيض جماعية في كل طبقة، وهو ما يجعل مهمة الدخول إليها أمراً صعباً لا يخلو من الانتظار أو من التعرض للتحرش في بعض الأحيان، وهو ما يقوله أحد الأطفال، الذي «يتجنّب التبول ليلاً»، خوفاً من أن «الذكور الأكبر سناً قد يجدون فيه فريسة ويهاجمونه».
ويجاور هذا النزل أكثر مناطق دمشق شعبية، فهو قريب من أسواق بيع الخضر ومن سوق «الحرامية» الشهير ببيع الأشياء المسروقة. ويتشابه جميع نزلاء هذه الفنادق، فهم غالباً أسر كبيرة العدد، يعمل فيها الأولاد والزوجات في التسول أو بيع الأشياء البسيطة (كعلب المحارم)، فيما يبقى الرجال في الغرف بانتظار «غلة» اليوم، وفي أحسن الأحوال قد يعمل الرجال بالتسول أيضاً أو تنظيف الأحذية أو حتى في سوق «الحرامية».
لا تتجاوز أعمار غالبية الرجال في الفندق الثلاثين، لكن ذلك لا يمنع من كونهم آباءً لعدد كبير من الأولاد، فقد تزوّجوا في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمرهم كعادة غالبية هذه العوائل، وهم يؤمنون بضرورة كثرة الإنجاب، لكون الأولاد هم «رأسمال» المهنة أيضاً.
يقول عدنان مدور ــ وهو متطوع في عدد من المبادرات والمنظمات ــ إنه تعرف من خلال عمله الذي يهتم بأطفال الشوراع إلى عدد من العائلات الغجرية النازحة، وهي في مجملها تشغِّل الأولاد في مهنة التسول وتبقيهم في الشارع طوال اليوم إلى حين تجميع المبلغ المطلوب منهم. ويضيف أنه خلال أحد نشاطاتهم التقى بفتاة صغيرة تعاني من حالة «جرب» متقدمة ولم تتلقّ أي علاج، فعرض مشكلتها على «مبادرة» تُعنى بهذا الشأن، وبدورها سعت إلى تقديم العلاج للطفلة ولعائلاتها. ويوضح أنه ذهب مع طبيبة إلى غرفة الأسرة في أحد فنادق شارع الثورة، وشرحوا لها سبل العلاج والحماية، غير أن العائلة لم تُبدِ أي اهتمام بالأمر، ما اضطرهم إلى تكرار المشورة عدة مرات حتى استجابت الأم وقامت بتهوية الغرفة وموجوداتها.
ويوضح مدور أن «الغجر» لا يقتصر وجودهم على فنادق شارع الثورة فقط، ولكنهم أيضاً موجودون في ساحة المرجة، بالإضافة إلى مناطق جبل الرز ونهر عيشة، وهي مناطق شعبية تقع في محيط دمشق. ويشير إلى أن ظروف إقامة هذه العوائل في الفنادق، رغم سوءها، «أفضل من تلك المناطق، فغالبية المنازل هناك غير صالحة للسكن، وتعاني من نقص الخدمات، ويصل سوء الوضع في بعضها لدرجة أنها لا تمنع تسرب أمطار الشتاء ولا تجنّب حرّ الصيف».
وتقول سامية النحاس ــ وهي من مؤسسي مبادرة «سيار» التي تُعنى بتعليم أطفال الشوارع وتهتم بهم ــ إن هذه العوائل لا تملك أي شكل من أشكال الترابط الأسري، وغالباً ما يتعرض أولادهم للعنف والتحرش في الشارع.
وتضيف أن المشكلة التي يتعرض لها هؤلاء لا تقتصر فقط على التسول وعدم التحصيل العلمي، بل تصل إلى درجة «توريطهم في مجال الدعارة، وتهيئتهم لتقبُّل هذا الأمر، بالإضافة إلى تعليمهم فنون الإغواء، وهم في عمر صغير».
صورة أخرى
حياة أطفال بعض هذه العائلات تأخذ شكلاً مختلفاً في يوم السبت، فخلال بضع ساعات يشعرون بأنهم كالبقية يمارسون حقهم في التعلم والرسم واللعب، فهم يتجمعون أسبوعياً في مركز متخصص تحت جسر الرئيس، ويلتقون هناك مع فريق «سيار» الذي أخذ على عاتقه مدّ يد المعونة لهؤلاء الأطفال من خلال نشاطات تفاعلية وتعليمهم مبادئ الحساب والقراءة والكتابة.
وفي هذا اليوم يمكن أن تجد جميع هؤلاء الأطفال بصورة مختلفة وبأحلام جديدة ما كانوا يفكرون بها وفق ما يؤكد القائمون على المبادرة، موضحين أنهم بعد أشهر من التعب مع هؤلاء الأولاد باتوا يلمسون الاندفاع والرغبة التي يملكونها لتعلم شيء جديد.
مودة بحاح
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد