التفسير الظاهري للدين لا يكفي
يوحي عنوان كتاب حسن عجمي "السوبر اصولية" بنظرية جديدة في قراءة الحركات الاصولية، بتجاوزها ما هو سائد حتى الآن. تظهر الصفحات الاولى أننا امام عنوان اضخم بكثير من المحتوى، حيث لا يغطي سوى فصل واحد من الكتاب، فيما يتركز القسم الاكبر والاهم منه حول "الدلالة والمعنى واللغة في التراث الاسلامي". مع ذلك يحاول الكاتب ان يقدم مفهوما حول السوبر اصولية قد يتفق الواحد معها او يختلف فيراها غريبة عن المألوف.
يعرّف عجمي السوبر اصولية بأنها "الاتجاه الذي يحاول الخروج من الاصولية والحداثة"، ويحدد الدين مفتاحاً لتعريف نظريته فيعتبر ان الاصولية ترى الى الدين من منطلق المطلقات والثوابت وامكان تأصيل المعتقدات الدينية والبرهنة على صدقها، فيما تنظر الحداثة الى الدين نظرة بعيدة عن المطلقات والثوابت بتأكيدها التغير الدائم في المفاهيم، ومنها الدينية. اما السوبر اصولية فتقول نظريتها حول الدين بأنه مطلق وثابت في المستقبل فقط، ولا يمكن ان تتم البرهنة على صدقية هذا الدين إلاّ في المستقبل، فيما يبدو الدين، حاضراً وماضياً، في حال من التغير يستحيل معها البرهنة على صدقه. هذا القول للسوبر اصولية حول ثبات الدين في المستقبل يوصل الى المحافظة على "دينية الدين كونه في التعريف هو الله". وتؤمن السوبر اصولية بأن القرآن والسنّة هما مصدر المعارف والاحكام الحق في المستقبل فقط، اي في الآخرة وعند "مجيء المخلص"، وهو ما يعني ان الدين والاسلام منه غير قائمين في الحاضر والماضي، وسينوجدان في المستقبل البعيد الذي لن تصل اليه اجيالنا. ويكمل عجمي ان السوبر اصولية تنادي بتطبيق مبدأ اللامحدود على جميع الميادين كسبيل لادراك الظواهر والحقائق في الحاضر والماضي. ولدى تطبيق هذه النظرية على الاسلام، يتبادر سؤال منطقي حول عدم القدرة على تحديد من هو المسلم، هل هو المؤمن بقوة عليا ام المؤمن بالشهادتين، وهل من الملزم له اقامة الشعائر الاسلامية ليصبح مسلما حقا.
يطبق عجمي نظريته في السوبر اصولية على الاخلاق فيرى انها قائمة في المستقبل فقط، ولذلك هي غير محدودة في الحاضر والماضي. بالنسبة الى هذه السوبر اصولية، ليس هناك تحديد للاخلاق ولطبيعة اي عمل، وهل هو اخلاقي ام غير اخلاقي، مما يسمح بالاختلاف والتغير في فهم معنى الاخلاق.
يتطرق القسم الرئيسي من الكتاب الى مسألة الدلالة والمعنى واللغة في التراث الاسلامي كما طرحها عدد من الفلاسفة والفقهاء. أكد عبيد الله بن الحسن، قاضي البصرة، ان "كل ما جاء به القرآن حق ويدل على الاختلاف، فالقول بالقدر صحيح وله اصل في الكتاب، والقول بالاجبار صحيح وله اصل في الكتاب"، مما يعني احتواء القرآن معاني مختلفة ومتضادة. وعلى هذا الاساس، من الخطأ تكفير اي موقف كان حول هذا الموضوع. اما السيرافي فدافع عن الدين الاسلامي من خلال نقده للمنطق والفلسفة اليونانية معتمدا نظرية النسبية في المعرفة التي رأى اختلافها مع اختلاف اللغة، فيما تحدد اللغة المعرفة. وهذا يعني له ان اللغة العربية المتمثلة في القرآن والسنة تحدد المعرفة بالنسبة الى العرب والمسلمين.
اعتمد الزمخشري والاسيوطي فكرة كون اللغة مصدر المعرفة للبرهنة على صدق الاسلام، وعلى أن معظم ابواب اصول الفقه ومسائله تعتمد في بنائها على علم الاعراب الخاص باللغة العربية. قدم الشافعي نظرية في المعنى فقرر ان السياق يحدده، لذلك خاطب الله العرب بلسانها، فيما ذهب ابو بكر الرازي الى نقد الدين الاسلامي ورفض وجود النبوات، واعتبار القرآن حاويا التناقضات والخرافات. اتى موقفه هذا اعتقادا منه ان الجمل اللغوية لديها معان ظاهرة فقط، ولا تملك معاني باطنية تلغي ما هو ظاهر. في مقابل ذلك رأى اخوان الصفا ان اللغة ذات المعاني هي مصدر المعرفة، وان اختلاف اللغات يفسر اختلاف الآراء والديانات، وان التفسير الباطني للدين هو التفسير الصحيح لمفاهيمه وآياته.
شكلت اللغة ميدان صراع بين المعتزلة والاشاعرة، فقط ربط المعتزلة نظريتهم في اللغة بقضية خلق القرآن. فالكلام، اي اللغة، صوت وحرف، والله متكلم، والاصوات فعل اجسام، لذلك من غير المستغرب ان يكون القرآن فعل اجسام. وبما ان اللغة ليست ازلية، وان القرآن لغة، اذن القرآن مخلوق وليس ابديا. في مقابل ذلك ذهب الاشاعرة الى ان اللغة معنى قائم في النفس، وبما ان لغة الله، اي القرآن، قائمة في نفس الله، وبما ان نفس الله ازلية، لذا فإن القرآن ازلي وليس مخلوقا. ذهب الكندي الى القول باستقلالية الالفاظ عن السياق الخطابي، مما يعني ان فهم النص، وتفسيره، ومن ضمنه القرآن، لا يعتمد على السياق النصي والقرآني، فيما أكد كل من الفارابي وابن سينا ان معاني الآيات القرآنية تعتمد على ادراكنا او تعقلنا اكثر مما تعتمد على السياق القرآني واسباب النزول وتفاسير السلف، وهذا يصل بهما الى القول بأن التفسير الباطني للدين هو التفسير الصحيح. وشدد الغزالي على أفضلية الجمع بين التفسيرين الظاهري والباطني للدين. اما ابن عربي فأشار الى ان ادراك معاني القرآن او الدين انما يتم من خلال تخيل الأشياء التي يتحدث عنها القرآن او الدين. التقى ابن رشد مع كثير من هذه الاحكام الا انه أكد دور القوى العقلية وقوى الادراك المختلفة في معرفة المعاني، وهو حكم وصل به الى الدعوة الى التأويل الباطني للنص الديني.
لا تزال قضايا اللغة وتفسير النص الديني حيوية وراهنية، تكتسب اهميتها من "اكتساح" النظرة السطحية الى النص الديني الذي يتطلب اخضاعه للتحليل العقلاني، بما ينزع عنه الاسطرة والخرافات وتبرير ايديولوجيا العنف، ويضعه في موقعه الروحي والاجتماعي حيث يجب.
خالد غزال
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد