التجديد والاجتهاد في النص الديني

06-08-2011

التجديد والاجتهاد في النص الديني

ظلّت أسئلة الجدل القديمة الجديدة بين الدين والعقل مستمرة ومبحرة دون أن ترسي سفينتها الى شاطئ أو مرسى، خصوصاً وهي تتوزع على نوعين من الاهتمامات، الأول يتعلق بسؤال الدين من داخل الدين، والثاني بسؤال الدين من خارج الدين، الأمر الذي يحتاج الى وقفة جدية، حول علاقة الديني بالعلماني، وعلاقة الدين بالدولة، خصوصاً بطرح سؤال ملح: هل يصلح الدين للدولة ولكل زمان ومكان؟ ثم ما هي علاقة لغة الفكر بفكر اللغة، وما هو موقع الدين، وقوفاً عند قنوات الانتاج المعرفي والثقافي لعالمنا المعاصر؟
وإذا افترضنا إمكانية تجديد الخطاب الديني، فكيف يحدث ذلك دون تجديد الفكر الديني ذاته، والأمر له علاقة انشغال فكرية وإنسانية وروحية، بتفسير الظواهر الكونية، سواءً تفسيراً مثالياً أو مادياً، بأسبقية الوعي أو بألحقيته على المادة، باعتباره انعكاساً للوجود المادي، في حين تذهب النظرة المثالية بافتراض أسبقية وجوده.
إذا كان هيغل قد نظر الى الدين باعتباره رغبة في السمو الانساني، نحو الأعلى والأكمل، الذي يتجسد الإله من خلاله، فإن فيورباخ نقد الدين، ومنه استمدّ ماركس رؤيته بشأنه، وإنْ لم يكن قد بحث فيه باستثناء كتابه حول «المسألة اليهودية». لكن ما شاع حول مقولة «الدين أفيون الشعوب» جرى قراءتها على نحو خاطئ من الفريق الذي يروّج لأفكار ماركس، ومن خصومه في الآن ذاته، الذين استغلوا تفسيره لدور الدين وكيف يمكن أن يعوّض مؤقتاً عن عذابات الانسان وحرماناته، الى نظرة معادية للدين أو الإيمان الديني، وهو ما لم يستطع أنصاره قراءته بمنهج ماركس نفسه، لأنه لم يبحث في الدين إلا من زاويته الاجتماعية، وكان جلّ اهتمامه بقيم الأرض لا بقيم السماء، لا سيما حياة الناس ورفاههم، وكيف يمكن استغلال قوة عملهم في إطار قانون التطور الاجتماعي التاريخي الذي تجسّده علاقة استغلال الانسان للانسان.
لقد تولّدت رؤيتان لقراءة النص الديني: رؤية غيبية إيمانية مثالية، ورؤية أخرى مادية، حسيّة، اجتماعية. لكن النقاش لم ينتهِ، بل بدأ على نحو مثير، ولا سيما في زمن الحداثة والعولمة من خلال: العلاقة بين النقل والعقل، وبين الشريعة والزمن، وبين الثابت من النصوص والمتحرّك من الأوضاع الاجتماعية وبين النص القطعي الدلالة والنص الظني الدلالة، وباختصار بين قراءة منفتحة للنص الديني وأخرى منغلقة.
إن أية قراءة تتطلب أولاً التوقف عند النص الديني ذاته، لا سيما في ظل المسافة الزمنية التي تفصلنا عنه، فهل وصلنا النص حرفياً؟ وما هي الطرق التي سلكها للوصول إلينا؟ وهل تدخلت جهات وقوى، وهذه طبيعة بشرية، لتكييف هذا النص، خصوصاً ما بين صدوره وما بين تدوينه؟ وهناك فارق كبير أيضاً، حيث كانت النصوص الأولى شفاهية، في حين أن عملية تدوينها جاءت بعد سنوات وربما عقود من الزمان، الأمر الذي قد يحدث نوعاً من التغيير أو التكييف أو الحذف أو الإضافة، خصوصاً الاختلال في دقة النقل والانفعالات التي صاحبته.
بعض رجال الدين من الذين يميلون الى التشدد يغطّون هشاشة قدرتهم في استنباط الأحكام، فيتشبثون بالنصوص، بل ينفخون فيها أحياناً، حتى وإن كان بعضها قد عفا عليه الزمن، أو قيل لسياقات مجتمعات غير المجتمعات التي نعيش فيها، أو أن حكمه يصلح لحادثة محددة وفي فترة زمنية يفصلنا عنه ألف وأربعمئة عام مثلاً، ولذلك تراهم يغلّفون شحّ معارفهم بالتمسك بأصول النص القديم بحرفيته من دون الأخذ بنظر الاعتبار التطور الحضاري والفارق الزمني.
ما هو المطلوب: هل تجديد النص؟ وإذا كان الأمر كذلك فالنص ثابت ومُقر، لكن ما يمكن القيام به هو إعادة قراءته على نحو جديد، لا تغييره، فذلك غير ممكن، بل ان المطلوب هو تغيير فهمنا له، بما يتناسب مع روح العصر، وأخذ هذه النصوص بسياقاتها التاريخية، لأن المطلوب لا التشبث بالنص بل بقدرة هذه النصوص على التدبّر والتكيّف بما يتوافق ويتناسب مع واقع اليوم. وهنا تتجسد ملكة رجل الدين «المتحرر» غير الغارق في النص، بل السابح نحو العمق لاستنباط الأحكام، متوشحاً بملكة الاجتهاد التي هي ملكة مكتسبة، تعتمد على ثقافته وعلمه وقدرته على إفادة مجتمعة من خلال قراءة مرنة وسمحاء تستجيب لروح العصر.
ولعلي أتساءل في مناقشة كليّة النص وقداسته، هل يحتاج النص الإسلامي الى تجديد وتحديث وعصرنة بحيث يتناغم مع التطور العلمي ـ التكنولوجي وثورة المعلومات والاتصالات والتكنولوجيا والاعلام والطفرة الرقمية «الديجيتل»؟ وإذا كان الجواب أنه ليس بحاجة لأنه كامل متكامل وفيه من الأحكام التي تصلح لكل زمان ومكان، والأمر لا يتعلق بالوحي والنص القرآني، بل ما جرى تداوله باعتباره نصاً دينياً على مدى قرون، بما فيه ما علق به على مرور الزمان، من ترهات وعُقد، لا يجمعها جامع مع القرآن وسنّة رسوله. أقول إن مثل هذا الجواب يقود الى التحجر والصنمية والجمود إزاء النص.
أما إذا كان الجواب نعم، فسيعني أننا بحاجة الى تجديد واجتهاد، وهو الأمر الذي أفترضه وإنْ تباينت زاوية النظر إليه، بين رجل دين وآخر وبينهم وبين وجهات نظر أخرى من خارج الدين، فإن ذلك سيفسر لنا كيف ومن أين نبدأ عملية التجديد والاجتهاد والقراءة الجديدة للنص وتفسيراته وتأويلاته؟ هل نبدأ من الفرد أم من المجتمع أم من الدولة وأية دولة نريد؟
وإذا كانت القواعد الدينية شمولية وكلية، إلا أنها عامة ومجردة مثل القواعد القانونية، ولهذا فإن البحث في الجزئيات والتفاصيل لاستنباط الأحكام بالاجتهاد أمر لا غنى عنه، وهو ما أطلق عليه السيد محمد باقر الصدر: منطقة الفراغ، التي يمكن أن تتسع لتشمل جوهر حياتنا المعاصرة. ولعل التحدي الأول في أي اجتهاد هو إعطاء الأولوية للبحث والاستنباط لأن النص القرآني مفتوح على الزمان والمكان، وهو يحرّك العقل باستمرار لقراءة الواقع بحثاً عن حياة إنسانية أفضل، وهنا يمكن أن نقرأه على نحو معاصر.
أما التحدي الثاني فهو اختيار الوسائل المناسبة للتجديد في إطار الاجتهاد، لا سيما حرية البحث العلمي، ولعل جامعة النجف التي مضى على وجودها نحو ألف عام، تعطي مثالاً حيوياً على ذلك من خلال الجدل والحوار والاطلاع على وجهات النظر المختلفة دون وصاية مسبقة أو تابوهات أو محرّمات، لا سيما في البحث وحرية التعبير والاستنتاج.
وإذا كان هناك «حوافز» أو «مبررات» فقهية وعملية اصطنعها بعض رجال الدين، فهذه تحتاج الى إعادة نظر في معانيها ومبانيها، وقد حاولت نخبة من علماء الدين مثل محمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله والسيد محمد باقر الصدر والسيد محمد صادق الصدر وآخرين، قراءة الواقع من جهة، لاستنباط الأحكام التي يزخر بها النص الديني، ولإيجاد مصالحة بينهما، ومن جهة أخرى جرت مساع لتطوير الحوزة العلمية وأساليب عملها ومناهجها وطرائق البحث العلمي الذي ظلّت مدرسة النجف مشرعة الأبواب بشأنها منذ تنظيمها على يد الإمام الطوسي منذ أعوام 449-460 هجرية.
ولعل قولاً أثيراً للدكتور محمد فاضل الجمالي رئيس وزراء العراق الأسبق، وهو مختص بالتربية وعلم نفس ومثقف جاد لا يطلق تقييماته جزافاً بشأن جامعة النجف في محاضرة ألقاها في جامعة اكسفورد العام 1957 حين قال: إن حرية البحث العلمي في جامعة النجف هي أكثر منها في جامعة اكسفورد، مؤكداً أن على الدارس أو المتقدم لنيل الدرجة العلمية كتابة أطروحتين بدلاً من واحدة، إحداهما تفسّر وتؤيد والأخرى تنتقد وتفنّد، الموضوع ذاته المطروح للبحث، الأمر الذي يخلق جدلاً وحواراً داخلياً لدى الباحث، وبين الاستاذ والطالب ومع زملائه وأساتذته في الحوزة العلمية، وهو ما دفع فريقاً من الباحثين والدارسين الى الانتقال من الايمانية العقائدية التبشيرية المستقرّة الى التساؤلية العلمانية التفكيرية النقدية القلقة، ولعل كتاب بلقيس شرارة عن والدها «محمد شرارة .. من الإيمان الى حرية الفكر» يعكس تمرد شريحة من رجال الدين الذين هجروا مواقعهم بفعل مدرسة الجدل، وهو ما رصدته في كتابي عن الجواهري «جدل الشعر والحياة» وسعد صالح «الوسطية والفرصة الضائعة» .
واستناداً الى قاعدة تجدد الأحكام بتغير الأزمان يمكن المحاججة بالإمام علي الذي قال: لا تعلّموا أولادكم عاداتكم لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم، ومثل هذا الأمر علينا التفكّر به فنحن في عصر العولمة، وقد حدث تطور علمي وتكنولوجي هائل خلال العقود الخمسة الماضية فاق كل التطور البشري منذ تاريخ البشرية وإلى الآن، ولعل هذا يتطلب قبول الاختلاف والحق في الاجتهاد والاعتراف بالآخر، بما فيه إعادة قراءة النص بما ينسجم مع العقل ومع روح التطور، وعلى قول الامام الشافعي: رأيي صواب لكنه يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، وذلك بعيداً عن التحريم والتأثيم والتجريم واغتيال العقل أو اعتقاله.
وعلى هذا المنطق نقيس الأمر ونتساءل بماذا يفيد التفسير التاريخي للنص أو استعادة النص التاريخي إذا كان هذا النص يثير مشكلات تاريخية على واقع لا يتحمّل شيئاً من مسؤولية تلك المشكلات، وهو التفسير الذي يذهب إليه بعض غلاّة الشيعة وبعض غلاّة السنّة، في محاولة لإعادة الزمن الى الوراء. كما لا يمكن البحث عن حلول لمشكلاتنا في كتب ما يسمى بالسلف الصالح، فحتى لو كان «صالحاً»، فإن أحكامه تصلح لعصره وليس لعصرنا، وإن كنّا نستفيد من القراءة للمعرفة وللدلالة. ولعل هذا الأمر لا ينطبق على النص الديني فحسب، بل على النص الماركسي الذي جرى تحويله أحياناً الى تعاويذ وأدعية، خارج نطاق منهجه الجدلي، وإذا كانت تعاليمه تصلح لعصره، فعلينا استنباط تعاليمنا، في إطار المنهج المرشد.
لا أجامل إذا قلت إن الكثير من رجال الدين لا يرغبون في التجديد وقد لا يكون لديهم القدرة على الاجتهاد، إما لعدم قناعتهم، أو للاستكانة لما هو قائم أو لانخفاض درجة الوعي لديهم أو خشيتهم من الانفتاح أو الخوف من الاتهام بالخروج على المألوف أو القلق على الامتيازات، أو لأن بعضهم وظّف نفسه لخدمة السلطان.

عبد الحسين شعبان

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...