التباسات في مفهوم العلمانية داخل الحوار السوري
اللافت ان مسألة العلمانية، وعلاقة الدين بالدولة وبالسياسة، باتت تحتل حيّزا مهما في سجالات المثقفين السوريين، ربما رداً على تنامي مشاعر القلق والخوف من تمدد ظواهر الإسلام السياسي في أكثر من مكان ومحلة من بلدان الجوار. وإذا سلمنا بأن مثل هذه السجالات لا تعد أمراً جديداً، لكنها تكشف اليوم بعض الالتباسات في فهم ظاهرة العلمانية تستوجب العرض والتبيان كي لا يغدو الجدال عقيماً.
أولاً، التنبه من الانجرار نحو فهم خاطىء للعلمانية غالباً ما تمليه اعتبارات إيديولوجية تهمل ضرورة التعمق في دراسة أوضاع المجتمع وقراءة هذا المفهوم كحالة ملموسة بعيداً عن التقليد الأعمى لما حصل في الغرب. فالعلمانية تشتق مبادئها مما يتصل بالنشاط الإنساني الملموس وليس فقط من قيم مجردة، الأمر الذي يتطلب موضوعياً نزع القداسة عنها وإعادة تعريفها بما ينسجم مع طابع مجتمعاتنا، وبداية تشجيع ما يطرح من أفكار ونماذج تحديثية ذات خصوصية ترفض التسليم بحرفية ما قدمته التجربة الأوروبية عن الفكر العلماني واعتبارها الوحيدة التي تملك الحلول العقلانية والصحيحة في رسم العلاقة بين الدين والدولة. ففي الغرب نفسه ثمة علمانية وعلمانية، وعلى سبيل المثال يختلف النموذج الفرنسي عن النموذج الأميركي في تحديد تمظهر العلمانية كقيمة ومحددات وفي ماهية هامش الحريات الشخصية المتاح والضوابط الدستورية والقانونية التي تحول دون هيمنة الدين والقوى الدينية على الحياة والدولة والخطاب السياسي.
ربما آن الأوان ان نعترف بانحسار الإيديولوجية والتصورات المسبقة كخيار معرفي ونضالي، والإقرار بلا جدوى خوض السجالات في مستوى النصوص والأفكار لإثبات صحة هذا المفهوم أو ذاك، ما يعني إعادة صياغة دور المعرفة في الحياة وتقدم مبدأ توظيف المنهج العلمي وتطبيقاته العملية من أجل تفسير الواقع الحي وتحليله كظواهر ومشكلات محددة، وتالياً بناء التصورات والمفاهيم، ومنها العلمانية، في ارتباطها بالتاريخ الحي في سياق تحولات الأحداث وتطورها كما تجري على أرض الواقع لا كما ترسمها العقول والرغبات.
ثانياً، استحضر الحوار عن العلمانية مزيداً من الشكوك حول صدقية التيارات السياسية التي تستمد من الدين أصولها ومرجعيتها، ومزيداً من الارتياب بحدود إيمانها بالديموقراطية وقدرتها على احترام التنوع والاختلاف، خاصة وأنها ليست قليلة أو محدودة الأمثلة التي يمكن أن يستند إليها البعض للطعن بقوى الإسلام السياسي عموماً والسخرية من إمكانية أن تخرج من جلدها وتغدو ديموقراطية ومعتدلة، هذا في حال لم يسارع الى اتهامها بأنها تشكل القاعدة الفكرية والاجتماعية لنمو وترعرع الأصولية والتطرف.
وإذ يمكن تعريف العلمانية، من حيث الجوهر، بأنها فصل الدين عن الدولة، أو استقلال السلطة في التشريع وإدارة الحكم عن المؤسسة الدينية، فهذا لا يعني بأي حال إلغاء الدين أو إبعاده من المجال الاجتماعي بل العمل فقط على إخراج الدولة والتنظيم الاجتماعي من سيطرة الممارسة الدينية وتالياً إخراج الممارسة الدينية من سيطرة السياسي ورعايتها في إطارها الحيوي كحق وخيار شخصيين، مثلما لا يعني أن نغض النظر عن ظواهر موضوعية يمكن أن يفرزها المجتمع في المستوى الراهن من تطوره، لا تزال تجد خلاصها في هذا المستوى أو ذاك من الربط بين الدين والسياسة.
لقد درجت العادة في ثقافتنا القديمة على استخدام الديموقراطية سلاحاً تكتيكياً، أو وسيلة للوصول إلى الحكم ثم الانقلاب عليها وتبرير الاستئثار بالسلطة تحت حجج وذرائع شتى، وفي إطار هذه الثقافة يصح التشكيك المسبق بتيارات وجماعات استسهلت تحت العباءة الدينية مصادرة كل شيء وحاولت قسر الإسلام في حركة سياسية تخوض الصراع ضد الآخر انطلاقاً من الفروق الدينية، وليس من منطق ماهية هذا الآخر ووظيفته الموضوعية في المجتمع. لكن لا يجوز تعميم هذا الموقف على مروحة وتشكيلة واسعة من ظاهرة الإسلام السياسي، بل على العكس يتوجب البحث عن التخالف والاستثناء، وتظهيره وإشهاره، كما هو حال التجربة التركية مثلاً، بصفته الأساس الذي يفترض أن تبنى عليه مرحلة لا مناص من خوضها تفترض التعايش مع تيارات من الإسلام السياسي لا تزال تملك وزناً ودوراً كبيرين في المجتمع، مثلما لا يجوز دفع الأمور الى تطرف مقابل وتأجيج التعارض والالتباس بين الاحتكام لمبادىء الديموقراطية من جهة ورفض ما تأتي به إذا كان يعارض أفكارنا ومواقفنا من جهة أخرى، بدلاً من تقديم أولوية الديموقراطية، مهما تكن نتائجها، وتربية النفس والآخر على الثقة بقواعدها وبقدرتها على تصحيح أي مسار خاطىء أو أي اندفاعة قسرية تسوق الأمور خارج هذه القواعد، نحو الاستئثار والتطرف والحسابات الذاتية الضيقة.
ثالثاً، يبدو أنه توجه خاطىء خلق مسافة غير صحية بين العلمانية وما تفرضه من التزامات وتفسير خاص للحياة والثقافة والسياسة وبين الديموقراطية، وبخاصة لجهة منحها الأولوية على ما عداها، الأمر الذي يطرح سؤالاً كبيراً عن صدقية بعض القوى العلمانية أيضاً، ومدى جدية دعوتها للحرية والتعددية، والى أي حد تسوغ لنفسها أن تمارس ما تعيبه على الآخرين حين تستسهل التضحية بالديموقراطية كقاعدة للتفاهم والحياة هي الأشمل والأغنى لحساب رؤية فكرية أحادية تمثلها العلمانية.
فمثلما يتهم العلمانيون تيارات الإسلام السياسي بأنها خطر على المجتمع وتهدد بأخذه رهينة لمطامعها، يعتبر الناشطون الإسلاميون فرض أية فكرة تتناقض مع مفاهيمهم على المجتمع يضر بهم وبما يعتبرونه حقاً لهم وخصوصية، ولا نعرف كيف ينصب طرف ما من نفسه دون الآخرين مرجعاً أحادياً ووصياً على المجتمع، ولأي سبب ينبغي أن نصدق ادعاءاته بأنه حامي حمى العلمانية وأنه لا يعمل وتحت ذريعة حماية الشعب من اضطهاد القادة الدينيين على توجيه الأمور نحو اضطهاد آخر وبما يخدم مآربه ومصالحه الخاصة.
البديهي أن أبسط مبادىء الديموقراطية تتنافى مع إقحامها بأي غرض أو غاية سياسية، فلا اشتراطات لضمان صحتها وعافيتها سوى تحييد قواعدها الالتزام بقوانينها، ومن الخطأ تالياً تقديم أي فكرة أو رؤية سياسية عليها مهما تكن من وجهة نظر صاحبها صحيحة وصائبة.
وفي هذا السياق يبدي البعض مخاوف مشروعة من أن يكون الهدف المضمر من وراء تركيز الأضواء على مسألة العلمانية على أهميتها وحيويتها هو حرف الأنظار عن المسألة الديموقراطية وأولويتها، ربما لتشويه الاصطفافات من مشاريع الاصلاح السياسي ودفع الأمور في مسارات جانبية لا تمت الى عملية التغيير الديموقراطي بصلة وتخدم أصحاب السلطة والمنافع والمدافعين عن الوضع القائم. ففي بلاد كبلادنا ما نحتاجه أولاً، هو الديموقراطية، ليس فقط لمعالجة ما نعانيه من أزمات ركود وتخلف، وإنما الأهم لأن الدولة العلمانية لا تقوم بغير التراضي والاحتكام إلى الديموقراطية كقواعد وآليات، ولأن العلمانية لا يمكن أن تتفتح إلا بصفتها قاعدة للتوافق على عقد اجتماعي يرضي الجميع، بينما تصبح مشوهة وهدامة عندما تفرض من فوق أو بالقوة والعنف من قبل طرف دون احترام الخيار الديموقراطي، ما يحث الجميع على نصرة علاقة صحية بين العلمانية والديموقراطية تبدأ برفع راية الديموقراطية كنمط حياة يجب تعزيزه وتطويره، مروراً بنقد الإرث العلماني المستند الى الممارسات القهرية تجاه الحركات السياسية المرتبطة بالثقافة التاريخية للمجتمعات المسلمة، وتخليص المجتمع من التطرف والإرهاب الأصولي ومن الاستبداد العلماني على حد سواء.
في الماضي تم تغييب الديموقراطية وأهمل دورها في معالجة ما نعانيه من ركود وقهر وفساد، واتجه النتاج الثقافي والنشاط السياسي بصورة رئيسة نحو مسألتين، تعلقت الأولى بالوطن والقومية، وبالأخص القضية الفلسطينية وبناء الوحدة العربية، وارتهنت الثانية إلى البعد الاجتماعي والتطلع نحو مجتمع العدالة والمساواة والقضاء على الاستغلال، وكانت النتائج حالنا الراهنة التي تثير الشفقة، ولا نعرف اليوم إذا كنا قد بدأنا نشهد وللأسف ولادة خيار جديد يرغب في إرجاء الديموقراطية مرة أخرى، ويجد في العلمانية الحل السحري لمشاكل المجتمع ويجاهد كي يفرض هذا الخيار على الجميع.
إن تعليق الآمال على العلمانية دون طرح الاصلاح السياسي الديموقراطي كأولوية، أو التقليل من اعتباره أساساً لنهضة مجتمعاتنا هو أشبه بمن يضع العربة أمام الحصان، فلا أفق لانتصار العلمانية في أجواء يرعاها الاستبداد وتغيب عنها الحريات الفكرية والتعددية وتحكمها شروط وصلت إلى حد أن بعض التيارات السياسية ليس فقط غير مهيأ للتعايش مع الآخر أو الاستماع لإجتهاداته، بل يرى في نفي هذا الآخر واستئصاله واجباً لا يؤجل!.
أكرم البني
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد