التاريخ وإشكالياته في صدر الإسلام

03-03-2012

التاريخ وإشكالياته في صدر الإسلام

تتصدر إعادة كتابة التاريخ الإسلامي الدراسات الحديثة، إذ يطرح الجزء الأكبر من الباحثين العرب الكثير من نقاط الاستفهام حول الرواية الرسمية للإسلام في مراحله المتعاقبة، ومن بين هؤلاء الدكتور سليمان بشير المتوفى عام 1991.

في أطروحته «مقدمة في التاريخ الآخر، نحو قراءة جديدة للرواية الإسلامية» بطبعتها الجديدة الصادرة عن (منشورات الجمل، 2012) يرصد الكاتب الفلسطيني سليمان بشير بدقة علمية تاريخ صدر الإسلام ويوضح في المقدمة الصعوبات المنهجية التي اعترضت عمله خصوصاً على مستوى تناقض الروايات والخلط بين الشخصيات، فيبرز أهم الإشكالات في دراسة الفترة الانتقالية «في الجاهلية وصدر الإسلام» ومن بينها الرواية الشفوية. وكي يتخطى صاحب «المشرق العربي في النظرية والممارسة الشيوعية» مأزق التوليف، يعمل على مقارنة الأحداث والوقائع للخروج بنتائج أولية، ويستهل بحثه العلمي الدقيق بإشكالية جمع القرآن الكريم (يذكر المستشرق ثيودور نولدكه أن كلمة قرآن جاءت من الكلمة الآرامية Queryana بمعنى التلاوة أو الترتيل وليس بالضرورة بمعنى القراءة)، فالرواية الرسمية تقول ان الجمع حدث على أيام الخليفة الثالث عثمان بن عفان، لكن الكاتب لا يقتنع بها، بل يحاول التدقيق بين مختلف الروايات، فمن جهة ثمة اتجاه أول يعتبر أن الجمع بدأ عملياً في عهد أبي بكر وتحديداً بعد استشهاد الكثير من الصحابة في حروب الردّة، واتجاه ثانٍ يعتبر أن جمعاً تم في عهد الرسول - وهو رأي بعض الباحثين المحدثين - واللافت أن بعض الأحاديث تؤكد ذلك، واتجاه ثالث تقدمه الرواية الشيعية التي تُحيل عملية الجمع على الإمام علي بن أبي طالب.

وسط ضجيج المعلومات وتضاربها يصل الكاتب الى الخلاصة الآتية: «التدوين والجمع بدآ في حياة الرسول واستمرا طوال ما عرف بفترة الخلفاء الراشدين وبعض من خلافة بني أمية». ثمة نقطة مهمة يشير اليها بشير: «ورود آيات قرآنية تتعلق بحوادث وقعت بعد وفاة الرسول»، فإلى ماذا يؤشر هذا المعطى؟ هذا المفصل تحدث عنه الباحثون المعاصرون، إذ وجدوا بعد دراستهم للقرآن الكريم أن هناك اختلافاً من حيث البنية اللغوية والاسلوبية، واتجه طرف منهم الى الجزم بأن القرآن متعدد المنابع، وهذا الطرح يحيلنا على إشكالية مهمة بحث عنها الاتجاه الصوفي في الإسلام، فقد سعى بعض المتصوفين للوصول الى كنه القرآن غضاً كما أُنزل على النبي العدناني.

يقدم سليمان بشير بانوراما تاريخية نقدية لما يسميه التاريخ الآخر، أي التاريخ المسكوت عنه، فإلى جانب الفرضيات التي طاولت جمع القرآن الذي تعددت تسمياته، ينتقل الكاتب الى المراحل التمهيدية التي رافقت ظهور الدين التوحيدي في مكة تمهيداً لدراسة الرواية الإسلامية حول شخصية النبي، فيكشف عن ينابيع التوحيد لدى بعض المكيين أو ما يعرف بـ «الحنفاء»؛ ومن بين الروايات التي يدرجها والتي ساعدت بدورها على بلورة المحيط العقدي عند محمد قبل البعثة «أن جبل حراء الذي ارتبط بشخص الرسول ومبعثه كان معظماً ومقدساً في الجاهلية وأن بعض قريش وليس الرسول فقط، كان يتحنّث فيه طيلة شهر رمضان قبل ظهور الإسلام». اللافت كما يلاحظ الكاتب حديث المصادر الإسلامية ومن بينهم المسعودي عن وجود معالم لدين التوحيد في مكة والجزيرة قبل دخول عبادة الأصنام اليها، وهو لا يشكك في هذه الرواية بل يعيدها الى جذورها، معتمداً على السيرة النبوية لابن هشام الذي قال ان مصدر أصنام العرب هو من مؤآب من أرض الشام وأن عمرو بن لحيّ زعيم خزاعة على مكة، أحضر معه هبل الى الحجاز؛ وهبل كما تلاحظ الأبحاث الاستشراقية إله نبطي في الأساس.

يبدو المحيط العقدي/ التوحيدي الذي رافق محمد قبل البعثة من أهم محطات الكتاب بسبب عاملين: الأول ظهور جماعة الحنفاء التي سبقت الإسلام (يشير الكاتب الى أن كلمة حنيف معربة عن التعبير الآرامي Hanpa التي كانت تعني في الأصل «وثني» والكنيسة البيزنطية هي التي أطلقت هذه التسمية الدالة على الانحراف والانشقاق المذهبي) والثاني، تحول الله الى محور العبادة والمعتقد الرئيس في الكعبة قبل ظهور محمد، ما أدى الى تضاؤل مركز هبل حتى أصبحت الكعبة تعرف باسم بيت الله، ما يعني توافر أجواء تاريخية/ توحيدية مهدت لنبوة الرسول.

ينتقل صاحب «توازن النقائض محاضرات في الجاهلية وصدر الإسلام» الى العلاقة بين الرسول والأمويين، فيخلص الى أن التحالف السياسي بين الطرفين «ظهر بوضوح قبل وفاة» النبي، بدليل أن المهاجرين شعروا بأن بني أمية ينازعونهم على الخلافة، وهذه الخلاصة تتناقض مع الرواية السائدة التي تعتبر أن «فتح مكة» كان بمثابة الهزيمة للأمويين. يعرج الكاتب على أدب المفاضلة الذي حاكته الرواية الإسلامية، على خلفية خلافة الرسول، ويرى أن التاريخ الرسمي ضخم من دور السقيفة «كأساس لشرعية السلطة في الإسلام»، وهذه المفاضلة وصلت الى ذروتها بتصدر الإمام علي وأبي بكر لها.

يفكك بشير الرواية الرسمية المتعلقة بعمر بن الخطاب، الذي يعتبر المؤسس الثاني في الإسلام؛ والفاروق وضعته الأحاديث في مقام «المحدث» وهي درجة تأتي بعد النبي بدرجة واحدة لأنه يسمع صوت الوحي ولا يرى الملاك، وهذه الصفة أعطيت لأبي بكر فيما أعطتها الشيعية الإمامية الى أئمتها. الملاحظة التي يلفت اليها الكاتب خلط الروايات الرسمية بين شخصية عمر وعمر بن عبدالعزيز الخليفة الأموي، وبينه وبين عبدالملك بن مروان خصوصاً لناحية الانجازات الادارية التي ساهمت في نشوء الدولة الوليدة. ومن الإشكاليات التي يتطرق اليها بشير المؤثرات البيزنطية على الإسلام فيستشهد بالمقولات التي توصل اليها مشاهير المستشرقين من أمثال فلهاوزن وبروكلمان وجب، فهؤلاء اعتبروا أن فكرة الثواب والحساب والجنة والنار وكذلك بعض أشكال الصلاة الاسلامية كالوقوف والركوع هي عادات مسيحية.

في دراسته لحقبة الخليفة عثمان يركز الكاتب على الفتنة، وبعد أن يفند الأجواء التاريخية التي أدت الى الانقلاب على الخلفية الثالث (هو أول من اتخذ مقصورة في المسجد خوفاً من أن يصيبه ما أصاب عمر)، في ظل تضارب الروايات والمعلومات، يرى الكاتب «أن الفتنة على عثمان كانت ثورة على الحكم الأموي ليس في المدينة فقط بل في غيرها من الأمصار أيضاً» وأن «مقتل عثمان لم يعنِ القضاء على مركز الحكم الأموي في الشام». عثمان أعطته الروايات الرسمية درجة المحدث على شاكلة عمر ولكن الأهم اعتماد الكاتب على بعض المصادر التي أشارت الى دوره في ادخال أمور معينة على بعض الأركان والأحكام الدينية ومن بينها استحداثه لافتتاح الصلاة بـ «بسم الله الرحمن الرحيم» وبأن سابقيه كانوا يفتتحونها بـ «الحمد لله رب العالمين»، وبصرف النظر عن الخلافات بشأن هذه المسألة يُذكر أن مصحف عبدالله ابن مسعود لا يحتوي على الفاتحة.

الكتاب لا يقتصر على دور عمر والمحيط العقدي الذي أحاط بالرسول وبالفتنة في الإسلام المبكر، إذ يتناول بشير شعائر الدين التوحيدي وأركانه كالوضوء والحج والصلاة، بالنقد والتحليل محاولاً البحث عن امتدادتها التاريخية ليس في الجزيرة العربية فحسب بل أيضاً بالمحيط الأوسع، وفي هذا المجال يستخدم الكثير من المقارنات، ما جعل كتابه أقرب الى التاريخ الإسلامي المقارن.

أطروحة سليمان بشير تكتسب أهميتها من ثلاثة معطيات أساسية: أولها تفكيك الرواية الإسلامية التي أحاطت بحقبة صدر الإسلام (وهي حقبة تأسيسية) وإعادة بناء تاريخ جديد عبر غربلة الروايات والأحداث والمقارنة في ما بينها؛ ثانيها، استخدام مناهج علمية جديدة بالنسبة الى الدراسات العربية كالفيلولوجيا والاستقراء والمنهج المقارن؛ ثالثها، قراءة حقبة صدر الإسلام التي تشكل عماد الأطروحة من زوايا متعددة، فالكاتب لا يكتفي باللحظات المنتجة لهذا التاريخ الإشكالي بل يتحرى عن الظاهرة المدروسة في مداها الزمني الطويل.

ريتا فرج

 المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...