التأويل العقلي: ثنائية الوحدة والاختلاف والموقف الأنطولوجي
يذهب بعض الباحثين في قضايا التراث إلى ربط التأويل العقلي بالفتنة واعتباره عاملاً أسهم في لحظات تاريخية مختلفة في تفكك الأمة الإسلامية. هذه المصادرة كانت نتيجة طبيعية للإلحاح على النظر إلى التأويل من خلال بعد وحيد هو البعد الأيديولوجي، على حساب أبعاد أخرى محتملة من وجهة نظر البحث العلمي الموضوعي.
من المبالغ فيه القول بأن التأويل كان دائماً مقترناً بالفتنة، بل يعود الفضل إليه في التمهيد لعملية تثاقفية ضمن فضاء ثقافي، إن شهد فترات من التضييق على الحريات وإلغاء للآخر، فإنه وفي لحظات أخرى قد وفر قدراً من الحرية والتعددية ومعهما القدرة على تقبل تلك التعددية الثقافية وذاك التنوع والاختلاف، لاسيما في القرن العاشر الميلادي أو ما عرف بالعصر المدرسي. وقد عبر ابن خلدون عن تلك التعددية وعن مدى قبولها في المجتمع العربي الإسلامي حين ميز علماً أسماه بـ «الخلافيات»، له شروطه وقواعده: «الجدال هو معرفة آداب المناظرة (...) كيف يكون حال المستدل والمجيب (...) وأين يجب السكوت ولخصمه الكلام والاستدلال، لذلك قيل فيه أنه معرفة بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي وهدمه» (المقدمة، ص 362). لذلك فإن القول بأن التأويل ارتبط دائماً بمفهوم الفتنة قول فيه كثير من لا موضوعية وعدم دقة. فإذا كان التأويل يطرح ثنائية الوحدة والاختلاف في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، إلا أنه لم يبق أسيراً لهذه الثنائية، فقد تطور السياق الفكري ليتيح لهذه الثنائية أن تظهر على أساس جدلي، الأمر الذي كانت له نتائج حاسمة معرفياً.
من جهة أخرى، بقيت التعددية المرجعية التي أفضى إليها التأويل ضمن المرجعية الإسلامية الأساسية، أي القرآن الكريم بوصفة المصدر الأول للمفاهيم الإسلامية والخطاب الأول المتصل بالعقل والعلم. وقد تعامل الفكر العربي الإسلامي مع التأويل بشكل واع ومنهجي, بلغت ذروته حقل الفلسفة، وما كان ذلك إلا نتيجة للتراكمات المعرفية التي بدأت تتشكل في حقلي الفقه وعلم الكلام، جنباً إلى جنب مع تطور المجتمع العربي الإسلامي وصولاً إلى القرن العاشر الذي ترافق مع تفكك دولة الخلافة فتفككت معها الأيديولوجيا الأوتوقراطية للسلطة.
يمكن النظر إلى التأويل في مستويين اثنين، الأول معرفي: حيث يبرز التأويل هنا على أنه آلية إنتاج معرفي راحت تُضبط منهجياً، والثاني أيديولوجي: من حيث أن نتائج التأويل كفعل معرفي أفضت إلى تصور للعالم. وهذان المستويان، المعرفي والأيديولوجي، يؤسسان لأن يصبح التأويل أيضاً موقفاً أنطولوجياً. فقد قدمت السلطة العباسية نفسها على أنها ممثلة للوحي الإلهي عبر تأويلات خدمت توجهاتها الأيديولوجية، ولم يكن بالإمكان مواجهة هذه الأيديولوجيا إلا بأيديولوجيا مضادة. لذا يكتسب التأويل مشروعيته التاريخية بوصفه «أيديولوجيا تأويلية» أنتجت فهماً تحررياً مقابل «الأيديولوجيا التبريرية» التي أرادت السلطة فرضها وعدت كل انحراف عنها بأنه مصدر للفتنة ينبغي قمعه، ليصبح التأويل هنا أداة فاعلة في إعادة بناء أيديولوجيا المجتمع على أساس معارضة أيديولوجيا الدولة الأوتوقراطية.
وإذا كان التأويل يكتسب مشروعيته التاريخية من خلال الواقع الذي نما وتطور فيه الفكر العربي الإسلامي عموماً، فإنه أيضاً يكتسب مشروعيته من حيث موضوعه نفسه. فموضوع التأويل هو الخطاب القرآني، هذا الفضاء اللغوي الدلالي الذي يمارس التأويل سلطته المعرفية والأيديولوجية من خلاله. لقد قدم القرآن حقلاً دلالياً ومعرفياً وقيمياً جديداً، وهو يخاطب الناس بلغة دلالية جديدة، بل ويطرح إشكالات جديدة، ليس على الصعيد الميتافيزيقي وحسب، بل وكذلك، على الصعيد الاجتماعي المعاش. وإذا كان عصر النبي (صلى الله عليه وسلم) قد خلا من مفهوم التأويل، فإن ذلك كان محكوماً بطبيعة العصر النبوي واستمرارية الوحي فيه. لكن مع ذلك، لم يخل ذلك العصر من صيغ فكرية تأويلية بحدود قليلة أو كثيرة، لا سيما في القضايا التي اندرجت في حينه تحت مسمى (ما لا وحي فيه).
مع تطور المجتمع العربي الإسلامي والفتوحات الإسلامية، وامتزاج المسلمين بثقافة وعقائد جديدة. كان لا بد للقرآن أن يُستنطق تشريعات جديدة، ولم يكن ذلك ممكناً إلا بالقدر الذي أخذ يتبلور فيه شكل ما من التنهيج الفكري، أفضى إلى بروز تيار يلح على الرأي وعلى مبدأ تغير الأحكام بتغير الأزمان، والذي أخذ يتبدى من خلال ممارسات بعض الصحابة والخلفاء الراشدين، ومن ثم بروز واستقلال نسق معرفي ومنهجي أخذ يفصح عن نفسه تحت مسمى الفقه. وكان لمدرسة أهل الرأي دور كبير في التأسيس لمبدأ الاجتهاد في الرأي، الذي يؤكد على دور العقل في التشريع، وسيكون له دور كبير في تعزيز النزعة العقلية الذي ستدفع بها التطورات اللاحقة للمجتمع العربي الإسلامي إلى حدودها القصوى، وصولاً إلى الفلسفة العربية الإسلامية وبتوسط من علم الكلام.
ولكن في مقابل هؤلاء أصحاب التفسير بالرأي وقف خصومهم أصحاب التفسير بالمأثور. وإذا كان تأويل النص التاريخي البشري والطامح إلى تفسير كل معاني هذا النص هو مهمة صعبة، لعل شيلرماخ عبر عنها حين رأى أن الهرمنوطيقا لا تزال بعيدة عن أن تكون فناً مكتملا، فكيف هي الحال ونحن نتعامل مع نص إلهي هو القرآن الكريم؟ لقد واجه الفكر العربي الإسلامي وحوامله النظرية والاجتماعية السؤال التالي: هل بإمكان بشر ما أن يصل إلى القصد الإلهي الكامل والمطلق؟ لم يدّع أحد إمكانية ذلك. لكن أصحاب التفسير بالمأثور ألحوا على الفهم الموضوعي تغليباً، بينما رأى أصحاب التفسير بالرأي أن الفهم الذاتي المشروط والمضبوط بقواعد معينة أمر مشروع، وأن الاجتهاد في الفهم أمر جائز. وبينما يذهب أنصار النقل إلى التأكيد على شمولية النص عبر توسيع مجالاته، يبرز التأويل كأحد الأدوات المنهجية لمناصري العقل.
إن الفقه الإسلامي نفسه ما كان له أن يكون فهماً حيوياً تاريخياً للنص لولا مدرسة أهل الرأي التي أسست لصيغ عقلية ضمنت تحرر «العقل الفقهي» من الفهم الحرفي الجامد والتي أرادت أن تضبط العلاقة بين النص والواقع من خلال الفهم الذي يتيح للعقل أن يتخذ من ذاته موضوعاً لذاته. وإذا كانت الغلبة النهائية قد آلت لصالح تيار النقل، فإن هذا التيار لم يكن له أن ينتصر لولا استخدامه للمنهج العقلي ولو شكلياً، لإدراكه أنه لا يمكن محاربة تيار العقل بمنهج نقلي خالص تجاوزته العملية التاريخية. لقد تم التعبير عن تيار العقل من خلال مدرسة أهل الرأي (الفقه) ومن ثم المعتزلة (علم الكلام) وصولاً إلى الفلسفة، ومثلت الحوامل الاجتماعية لهذا التيار قوى التقدم الناهضة في المجتمع العربي الإسلامي الموحد على أساس الدين، لذلك أرادت هذه القوى تأويل الدين بما يخدم سيطرة العقل ووضعه في المكانة الأولى من قضية المعرفة باتجاه عقلنة المجتمع وتحقيق التقدم. وكان انتصار تيار النقل هو بمثابة الإعلان عن إخفاق قوى التقدم الجديدة الناهضة.
وبالتأويل، استطاع العقل أن يتحرر بحدود معينة من استراتيجية التنظير للنص الديني التي حكمت الفقه موضوعاً، وأن يتحرر من ذلك الانضباط الصارم لمراعاة القواعد المرسومة له سلفاً من خارج عملية التفكير ليصوغ لنفسه قواعد اشتقها من داخل الحركة الموضوعية للعالم، وليصبح بالتالي مولداً للمعرفة، وقد تم ذلك من خلال صيغة كلامية معتزلية رأت أنه في حال تعارض العقل مع النقل ينبغي تأويل النقل بما يتوافق مع العقل. هنا يصبح العقل ليس أداة للمعرفة فقط بل وأيضاً موضوعاً لها، وهو ما يشترطه أي إنتاج معرفي حقيقي يطمح للاقتراب من أشكال التفكير الفلسفي.
في الفلسفة كان على الفلاسفة إعادة طرح قضية التأويل بصورة نقدية تقبض على الشروط الاجتماعية والمعرفية للتأويل. فإذا كان التأويل في المستوى الأيديولوجي قد أفضى لتلك التعددية بسبب تعدد التصورات الناتجة من فعل التأويل نفسه، فإنه في المستوى المعرفي قد وحّد الخاصة في مواجهة العامة، وإلى ذلك يشير ابن رشد بقوله: «إذا لم يكن أهل العلم يعلمون التأويل لم تكن عندهم مزية تصديق توجب لهم الإيمان به ما لا يوجد عند غير أهل العلم وقد وصفهم الله بأنهم المؤمنون به». وابن رشد يتأوّل هنا الآية: «... وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به…»، و يتابع قائلاً: «فإن كان هذا الإيمان الذي وصف الله به العلماء خاصاً بهم، فيجب أن يكون بالبرهان, وإذا كان البرهان، فلا يكون إلا مع العلم بالتأويل» (فصل المقال/ ص 37- 38). ويؤكد ابن عربي سلامة عقائد العوام وصحة إسلامهم الفطري لكن: «إن تطرق أحد منهم إلى التأويل خرج عن حكم العامة والتحق بصنف ما من أصناف أهل النظر والتأويل» (الفتوحات، ج1/ ص 34).
صحيح أن عملية التمييز بين البراهين ابتداء بالخطابية وانتهاء بالبرهانية عند الفلاسفة العرب المسلمين قد وظفت أيديولوجياً وكانت الغاية منها تحييد العوام ومنعهم من أن يكونوا سلاحاً في يد من كان قادراً في أية لحظة على تأليبهم ضد الفلسفة والفلاسفة، لكنه صحيح أيضاً أنه بالإضافة إلى هذا البعد الأيديولوجي استطاع فلاسفتنا أن يقبضوا على بعد معرفي لا يمكن لنا تجاهله، وهو واقع التمايز بين ثقافتين في المجتمع. ثقافة شعبية تقوم على مجرد إعلان الانتماء المباشر وأخرى نُخَبية تقوم على مناهج وأسس محددة وتبحث عن الاتساق واليقين. هكذا يكون التأويل هو العتبة الأبستيمولوجية التي تفصل الخاصة الذين يفهمون عمق القرآن عن العامة الذين لا يدركون من المعاني القرآنية إلا ظواهرها. ويظهر هذا التمايز بين العامة والخاصة عند ابن رشد على أنه تمايز اجتماعي معرفي، بين المعرفة اليقينية الخاضعة لقواعد منطقية تعصم الذهن عن الخطأ، وبين المعرفة الظنية أو الاحتمالية القائمة على أقيسة غير برهانية.
هذه «الوثوقية» الرشدية التي قد تبدو للبعض ليست من ذلك النوع الدوغمائي الأيديولوجي الذي يدّعي الحقيقة المطلقة، بل اقتضتها منهجية ابن رشد في البحث، والتي أرادت أن تؤسس المعرفة على قواعد محددة تبعدها عن دائرة الظن والاحتمال، إنه البحث المشروع للعقل البشري عن اليقين المعرفي. هنا يبرز التأويل كضرورة منهجية وفكرية لكن عبر إعادة النظر في شروط التأويل الاجتماعية والمعرفية. فتأويل الشريعة لم يبق دائماً خاضعاً لمعايير الصراع السياسي بين الفرق المتناحرة لخدمة أغراض سياسية نفعية وآنية، بل كان على التأويل أن يصبح جزءاً من الموقف المعبر عن رؤية الفيلسوف للعالم.
حسام أبو حامد
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد