الإخوان المسلمون: ماذا بعد؟
في الوقت الذي كانت فيه القنوات الفضائيّة وشبكات التواصل الاجتماعي المختلفة، تبث الصور المباشرة القادمة من شوارع القاهرة عن اعتداءات الجيش المصري على المتظاهرين العزّل بالهراوات والرصاص الحي، كان الإخوان المسلمون يعيشون في شوارع أخرى حالة زهو ونشوّة، مردّها حصولهم على المزيد من المقاعد في الجولة الثانية لانتخابات مجلس الشعب المصري.
هناك شارعان سياسيّان في مصر إذن. شارع يصح تسميته «الثورة مستمرة»، يضم في ما يضم، كل القوى المؤمنة بأنّ تنحي مبارك كان مجرّد تغيير في إحدى إحداثيّات المشهد السياسي المصري القائم قبل انتفاضة « 25 يناير»، وأنّ قلبَ المشهد كلّه، يستلزم بالضرورة، بناء نظام جديد تماماً يستلهم مبادئ الانتفاضة الشعبيّة العارمة. وشارع آخر، يمثّل الإسلاميّون، وعلى رأسهم الإخوان، قلبه النابض.
يعكس مسار الأحداث اليومي، تقارب الشارع الأخير التدريجي مع طروحات المجلس العسكري بشأن إدارة البلاد. ركّز الإخوان على مسألة انتخابات مجلس الشعب، كأنّها النتيجة الوحيدة التي يمكن تحقيقها في ضوء معطيات الوضع السياسي المصري الجديد بعد رحيل مبارك، دون الانتباه إلى أنّ نتائجهم قد تمنحهم أغلبية نسبية في البرلمان، لكنّها لن تمنحهم الحكم. ففي الواقع، تجري هذه الانتخابات في ظل إطارين رئيسيّين، الأوّل دستوي، وهو لا يمنح سوى صلاحيات محدودة لمجلس الشعب المنتخب، والثاني سياسي، وهو استمرار سلطة المجلس العسكري، التي ستُنتهج سياسة لإعادة رسم المشهد المصري، بما يضمن مصالح المؤسّسة العسكرية السياسيّة والأمنية والاقتصادية، ما يمثل استمراراً للتوازن التاريخي القائم بين الدولة وعسكرها في مصر.
ما الذي تغيّر إذن؟ لا شيء، سوى أنّ المجلس العسكري استطاع أن يستغل نهم الإسلامييّن إلى السلطة لينقلهم من الميدان الثائر إلى المؤسّسة التشريعيّة، لكن دون أن ينقلوا معهم الثورة. أي إنّ المجال السياسي القيد التكوّن في مصر، لن يكون معبّراً بالأساس عن روح الانتفاضة الشعبيّة. لقد ارتضى الإخوان أن يؤدوا دور جمهور تشجيع المجلس العسكري في السياسة المصريّة، وبذلك لن يكون المتمخّض عن الانتخابات الحاليّة سوى البؤس، متجسداً في نظام سياسي، يحوز شرعيّة حقيقية ومعتبرة، لكنّه ينفّذ تقريباً كل سياسات النظام القديم!
من المهم الإشارة هنا إلى أنّ السلوك السياسي الذي انتهجه الإخوان للوصول إلى مكاسبهم المتوهمة، كشف عن انتهازيّة غير مسبوقة، يبدو أنّها تمثّل عقيدتهم الأساسيّة. فأمام تصاعد وتيرة القمع الأمني ضد النشطاء السياسيّين وقوى المجتمع المدني، كان موقف الإخوان موقفاً منحازاً لما يُعرف بـ«ضمان الاستقرار»، وتحميل المسؤوليّة لـ«العابثين» و«الخائفين» من نتائج الانتخابات التي ستأتي بهم حتماً. كانت قمّة ذلك السلوك غير الأخلاقي، الدعوة الكاريكاتوريّة التي أطلقها الإخوان لمليونيّة «نصرة الأقصى» في 25 تشرين الثاني الفائت، في محاولة واضحة منهم للالتفاف على الحركة الجماهيريّة التي ملأت ميدان التحرير عن آخره، رفضاً للقمع وحجب الحريّات، لكن الأيام القليلة الماضية كانت فارقة بالفعل، لأنّها كشفت بجلاء عن خواء ما يُعرف بـ«الخطاب الإسلامي» للإخوان. فصورة الفتاة المصريّة التي جرت تعريتها وضربها بوحشية في الشارع كان يجب أن تشعل فيهم الغضب ـــــ ألم يكن الإخوان الوقود الرئيسي لحملات تعبئة الجمهور في قضايا الفتيات القبطيّات اللواتي أسلمن، والتي تبيّن لاحقاً أنّها مجرد قضايا مفتعلة؟ ـــــ لكنهم آثروا الصمت ومن ثمّ تبرير ما يجري من ضرب للمتظاهرين السلميين.
كان تقدّم الإخوان والسلفيّين في الانتخابات المصريّة باعثاً للقلق لدى قطاع من «الليبراليّين» ونشطاء المجتمع المدني والقوى السياسية المصريّة بسبب «إسلاميّة» هذه القوى، لكن، يتكشّف لنا اليوم، أنّ مكمن الخشية من هذه القوى ينبغي أن يكون ذا مضمون سياسي ومطلبي اجتماعي أولاً. ففي السياسة، يثبت الإخوان كل يوم أنّهم أقرب إلى معسكر الاستبداد منهم إلى معسكر الحريّات العامة، وفي الحقل الاجتماعي ـــــ وهو مطروح بقوّة في الحالة المصريّة بسبب الوضع الاقتصادي الكارثي ـــــ لا يملكون رؤية حقيقيّة لحل مشكلات رغيف الخبز والفقر، بل على العكس من ذلك، يبتنى الإخوان رؤية «اقتصاد السوق»، وفتح البلد أمام الاستثمارات الأجنبيّة (اقرأ تصريحات قادتهم بهذا الخصوص في لقائهم الأخير مع جون كيري)، أي تبني السياسات ذاتها التي أسهمت في إفقار المصريّين، ومصّ دمائهم على يد كارتيلات الاحتكار ومافيات الاقتصاد في عهد مبارك.
الظلال القاتمة التي ألقت بنفسها أخيراً على الحالة المصرية قد تكون أطلقت موجة كبيرة من التشاؤم في أوساط كثير من الفاعلين السياسييّن، لكن هذا التباعد الجذري بين الشارعين السياسيّين في مصر، هو بالضبط، المدخل الأساسي للتفاؤل. لأنّه سيعيد، وإن ببطء، الروح إلى السياسة. السياسة بمعناها الحقيقي: فعل اشتباك يومي ودؤوب، وفعل قطيعة مع الإرث، وفعل فرز شامل بين من يريد أن يُعيد عقارب الساعة إلى الوراء ومن يريد أن يدفع من خلالها عجلة التاريخ إلى الأمام نحو آفاق الديموقراطيّة والعدالة والحريّة.
رامي خريس
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد