ارتفاع الأسعار يشجع ابتكار «فنون» الادخار
في السنوات الأخيرة، شهدت سورية انتشاراً لمطاعم الوجبات السريعة، وانتشاراً أوسع للوجبات «نصف الجاهزة» التي يحتاج طهوها إلى بضع دقائق في فرنسا «المايكرويف». وهو الأمر الذي أدى إلى انحسار شعبية الأكلات الشامية، مثل «الكبّة» و»فتّة المكدوس»، وهما من الوجبات التي يتطلّب تحضيرها وقتاً وجهداً، وصارت تظهر على الموائد وفي المآدب اليومية في شكل متقطّع.
«نمط الحياة كله تغير هذه الأيام، بناتي كلهن عاملات، ولا يملكن الوقت الكافي لصنع أصناف الطعام التي كنت أصنعها أيام زمان...»، تقول الحاجة أم بكري 70 سنة، وتضيف باستياء واضح: «... ومع أن أراضينا خيّرة وتمتاز بوفرة المواد الطازجة، تعتمد سيدات كثيرات في هذه الأيام، ومنهن بناتي، على الأكل الجاهز عديم النكهة والفائدة»... وتتلفّظ بكلماتها الأخيرة كمن يعاتب الدهر على تغيير وتبدّل لا طائل منهما.
ومن هذه الأصناف السريعة التحضير، تحتل وجبة «الأندومي»، وأساسها المعكرونة (أو الباستا) اللولبية، المرتبة الأولى. إذ يكاد لا يخلو بيت سوري اليوم من أكياس الأندومي الملونة التي لا تحتاج الى أكثر من دقائق لتصبح أكلة لذيذة ومنكّهة.
ويحقق طبق الأندومي هذا شعبية متزايدة يوماً بعد يوم، بين الأطفال والشباب، بينما لا يزال لغزاً غامضاً عصياً على التفسير بين الكبار، وكلما طالعت الأخيرين مائدة عليها «الأندومي» حدقوا فيها طويلاً وهزّوا رؤوسهم على «مصائب» هذه الأيام. فيكتفون بأكلة ثانوية أو بيض مقلي، أو يبتلعونها غصباً عنهم، ويتنـحنـحون بعد كل لقمة!
«لا أعرف ما الذي يحبونه في هذه الوجبة. لولا رشة البهارات السخية التي أضيفها فوقها، لبقيت كأي معكرونة مسلوقة لا طعم لها ولا غذاء»، تقول أم في الأربعين من العمر، وتتابع حديثها كخبيرة تغذية: «على رغم انعدام قيمتها الغذائية، أعتبرها وصفة ممتازة، في الأيام التي أضطر فيها للعمل حتى وقت متأخر، فتعدّها إحدى بناتي بكل يسر لأخوتها ولأبيها أيضاً... وقد أدهشني كم يحبّها من بين يديها(!)». وعندما تقدمها تعتبر بنتها الكبرى نفسها أنها أعدت وليمة أو مأدبة فاخرة، على ما ترويه الأم بتهكم.
وعلى رغم أن مثل هذه الوجبات السريعة، غدت ضيفاً عزيزاً على الموائد السورية، تحتفظ الأكلات الشامية التقليدية بمكانتها المميزة في قلوب كثيرين، ولو اقتصر تحضيرها على ولائم المناسبات والأعياد ومآدبها. وقد بقيت هذه تشكل حافزاً لجمع شمل الأسرة التي نادراً ما تجتمع حول مائدة الغداء أو العشاء، نظراً الى ضيق الوقت واختلاف أوقات العمل الخاص والعام والدوام المدرسي والجامعي. ويصل كل في مزاج عكر يفسد الشهيّة، إما بسبب السندويتش الضخم الذي تناوله في الخارج، وإما ليتابع مسلسله الذي يفضّله على الجلوس أمام الطاولة، كبقية أفراد الأسرة... والحق يقال!
ينشغل كل باهتماماته الخاصة. ولكن ما إن يحل شهر رمضان المبارك أو مواسم أعياد الميلاد ورأس السنة، حتى تعود الأطباق السورية التقليدية إلى قائمة الأولويات لدى الأمهات من جديد. وهذا إضافة إلى يوم الجمعة، يوم العطلة الأسبوعية، في كل الدوائر الرسمية والخاصة، الذي يجمع العائلة حول مائدة الفطور صباحاً لتناول الفول المدمس أو الفتّة الشامية.
وتتميز كل محافظة سورية بأصنافها الخاصة، فبينما ينتشر منسف البرغل واللحم في المناطق الجنوبية، تتميز محافظة حماه بالمآكل الدسمة، والحلويات الطازجة بالقشدة، ويبقى لمحافظة حلب أصنافها الحارّة المميزة.
وتلفت ربات منازل إلى أن موجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية، التي علت ذروتها مع ارتفاع أسعار الوقود، قد فعلت فعلها، وكان لها أثر كبير في تنوع المائدة السورية، وبخاصة في البيوت الشعبية الفقيرة. ذلك أن أسعار الخضار واللحوم الطازجة، لم تعد في متناول الجميع. وهي المسألة التي أجبرت كثيرات من ربات البيوت على ابتكار أصناف جديدة خالية من اللحوم، وتعتمد في شكل أساسي على البرغل أو البقول. «اليوم بلحمة، بكرا بلا لحمة»، تعوّد جزّار في حي شعبي أن يسمعها لزبائنه عندما يريد أن يصرّف آخر كمية لديه. إلاّ أنه هذه السنة أصاب، فقد أتى «يوم البِلا لحمة».
«أطبخ اللحم والخضار مرة في الأسبوع فقط، بينما أمضي بقية الأيام في اختراع أكلات توفيرية»، تؤكد أم محمد (42 سنة). وتمضي في حديثها الذي يعبّر عن يوميات كثيرين: «راتبي وراتب زوجي لا يكفيان لأكثر من ذلك. والحمد لله على أن أبنائي يحبون الفلافل، فهي لذيذة ولا يزال ثمنها رخيصاً إلى حد ما».
وتحدثت صحف محلية عن مساهمة مسلسل «باب الحارة» في إعادة أكلات شامية شعبية إلى الأذهان وبعض الموائد. ولكنها تبقى من الوجبات التي تتطلب وقتاً، كان متوافراً أيام الحواري وأبوابها، ولم يعد كذلك اليوم. وإذا كان للتلفزيون فضل في أن تُفرش المائدة من حوله، ويُحضّر الطعام، وينفّذ الكوي، والدرس أيضاً من أمام شاشته التي غدت مصدراً يلهم «ست البيت» بالوجبات، لعل مسلسل «نور» التركي المدبلج، الذي أُفردت له قنوات رقمية خاصة، يساهم في إضافة بعض الأصناف التركية التوفيرية على المائدة السورية!
وليمة الشواء ... دائماً مفضلة
بيسان البني
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد