أزمة اليمين الأمريكي

08-11-2006

أزمة اليمين الأمريكي

يدخل التحالف اليميني الحاكم بالولايات المتحدة بزعامة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش وقيادات الجمهوريين في الإدارة الأميركية والكونغرس الانتخابات الفدرالية المقررة في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني الحالي في وضع لا يحسدون عليه.

وتشير استطلاعات الرأي وآراء الخبراء إلى تراجع الرضا الشعبي عن أداء الإدارة وعن أداء الجمهوريين بالكونغرس، وسط توقعات بأن يلقى الجمهوريون في الانتخابات الحالية هزيمة ثقيلة قد تكلفهم موقع الأغلبية بأحد مجلسي الكونغرس الأميركي على أقل تقدير.

لا يخفى على أحد أن التحالف اليميني الأميركي الذي تتوقع له الهزيمة في الانتخابات الحالية هو نفس التحالف الذي حقق نجاحات سياسية مستمرة على الصعيد السياسي الأميركي منذ عام 1994، وهو الذي تمكن به الجمهوريون من الفوز بأغلبية مقاعد مجلس النواب الأميركي لأول مرة منذ عقود.

ففي عام 2000 فاز المرشح الجمهوري جورج دبليو بوش بالبيت الأبيض بعد منافسة شرسة وصعبة مع منافسه الديمقراطي آل غور، وبعد أحداث 11/9/2001 وصلت شعبية الرئيس جورج دبليو بوش إلى مستويات عالية مكنته من الحصول على تفويض سريع من الكونغرس بشن الحرب على نظام طالبان بأفغانستان وسط مساندة أميركية داخلية وخارجية عالية.

كما تمكن التحالف نفسه من الفوز بانتخابات 2002 النصفية بأغلبية مقاعد مجلس الشيوخ، ومن دفع أميركا إلى غزو العراق على الرغم من المعارضة الشعبية والدولية الكبيرة، التي لم تمنع بوش من الفوز في انتخابات 2004 الرئاسية كما فاز الجمهوريون بانتخابات الكونغرس أيضا.

النجاحات السابقة لم تأت من فراغ بل جاءت نتيجة لعمل شاق قام به تحالف ضخم من الجماعات اليمينية الأميركية، فعلى الصعيد الفكري والإعلامي لعب المحافظون الجدد ووسائل الإعلام اليمينية دورا يشهد له بالكفاءة في حشد دعم الرأي العام الأميركي لسياسات إدارة بوش.

وعلى المستوي السياسي تمكن الجمهوريون من تعبئة قوى المسيحيين المتدينين (28 مليون ناخب) بشكل غير مسبوق، إضافة إلى حصولهم على تأييد الأثرياء المستفيدين من خفض الضرائب، وعلى تأييد اليمينيين التقليديين بولايات الجنوب والوسط.

وقد حصلوا أيضا على تأييد جماعات يمينية تقليدية مثل اليمينيين المنادين بالحد من دور الدولة وحجمها، وجماعات يمينية جديدة كبعض أبناء الأقليات الذين انضموا إلى خيمة الجمهوريين المتنامية متأثرين ببريق سيطرة الجمهوريين على مقاليد السلطة.

حجم ما حققه الجمهوريون من نجاحات سياسية منذ عام 1994 وحتى الآن وتوقع الكثيرين بأن يلقوا هزيمة كبيرة في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني الحالي يمثلان معا مفارقة كبيرة تثير عددا من الأسئلة الهامة حول أسباب تراجع الجمهوريين السريع.

فهناك أسئلة مثل: أين الخطأ ومن هو المسؤول عنه؟ بوش أم العراق أم المحافظون الجدد أم الإنجليكان أم كل ما سبق؟

نظرية العوامل الأحادية
الكتابات الأميركية لم تخل من تنبؤات عديدة ومختلفة بمستقبل الجمهوريين وهي تنبؤات زادت سلبية بعد غزو العراق الذي أحدث شرخا كبيرا في المجتمع الأميركي وفي المعسكر اليميني الحاكم على حد سواء.

فعلى سبيل المثال نشر السياسي والكاتب الأميركي المعروف بات بوكانان كتابا في عام 2004 بعنوان "أين أخطأ اليمين؟ كيف أجهض المحافظون الجدد ثورة ريغان واختطفوا رئاسة بوش؟"، والمعروف أن بات بوكانان ينتمي لتيار المحافظين التقليديين وهو تيار علماني مقارنة بالمسيحيين المتدينين كما أنه يميل للعزلة ويرفض النزعة التدخلية في السياسة الخارجية الأميركية، ويفضل في المقابل التركيز على الداخل وعلى برامج المحافظين التقليدية مثل خفض الضرائب والحد من حجم الحكومة الفدرالية وإغلاق الباب أمام الأجانب.

والواضح أيضا من عنوان كتاب بوكانان أنه تبنى نظرية تلقي بالجانب الأكبر من اللوم على مجموعة واحدة من الجماعات المشكلة للتحالف اليميني الحاكم حاليا بأميركا، ألا وهي "المحافظون الجدد" الذين أعلن بوكانان أنهم "اختطفوا رئاسة بوش" وقادوه إلى إنتاج سياسات تتنافى مع توجهات اليمينيين التقليديين الذين يمثلهم مثل التمادي في زيادة البرامج الحكومية وفي النزعة التدخلية في السياسة الخارجية.

بوكانان رأى في كتابه أن المحافظين الجدد مجموعة دخيلة على اليمين الأميركي، فهم –من وجهة نظره- مجموعة من المفكرين المتمركزين في واشنطن والذين يفتقرون للقواعد الجماهيرية الحقيقية وسط الناخبين الجمهوريين.

نظرية بوكانان التي ألقت باللوم على المحافظين الجدد لاقت رواجا واسعا في وسائل إعلام أميركية ودولية عديدة خاصة مع زيادة المعارضة الشعبية والدولية لحرب العراق التي رأى البعض أنها نتاج لفكر المحافظين الجدد كجماعة محددة داخل التيار اليميني الأميركي الحاكم.

ولكن أصحاب النظرية السابقة عجزوا دوما عن الإجابة على سؤال محوري، وهو كيف تمكن المحافظون الجدد من السيطرة على الإدارة الأميركية وعلى التيار اليميني الحاكم بهذه الدرجة، خاصة وأنهم كما يدعي بوكانان تيار فكري دخيل على اليمين الأميركي يفتقر للقواعد الجماهيرية الحقيقية.

والمعروف أن التحالف الأميركي الحاكم يتشكل من مجموعات عديدة أشرنا إلى أهمها في بداية هذا المقال، فكيف تمكن المحافظون الجدد من السيطرة على كل هؤلاء.

السؤال السابق يدفعنا إلى تفسيرات من نوع مختلف لأزمة اليمين الأميركي الراهنة، ومن أهم هذه التفسيرات التفسير الذي قدمه جاكوب هاكر أستاذ العلوم السياسية بجامعة يال وبول بيرسون أستاذ العلوم السياسية بجامعة ولاية كاليفورنيا في كتاب "بعيدا عن المركز: الثورة الجمهورية وتآكل الديمقراطية الأميركية" الصادر عن مطابع جامعة يال الأميركية في عام 2005.

هاكر وبيسرون يرفضان لوم جماعة أميركية معينة على أزمة اليمين أو على ما تمر به الولايات المتحدة حاليا من تحديات داخلية أو خارجية، إذ يريان أن المرض الذي أصاب اليمين الأميركي وانتقل منه إلى النظام السياسي الأميركي مرض قديم عضال يعود إلى تحالف النخب الثرية مع الجماعات الجماهيرية اليمينية المتشددة منذ أوائل السبعينيات ضد إرث عقد الستينيات الذي شهد صعود قوة جماعات أميركية مستضعفة كالشباب والنساء والأقليات والمهاجرين.

وردا على هذا الصعود تحالفت النخب الثرية مع الجماعات الدينية واليمينيين التقليديين للقيام بثورة مضادة ضد ثورة الحقوق والحريات التي وصلت أوجها في الستينيات.

واتخذ هذا التحالف من الحزب الجمهوري أداة ومنبرا لتحقيق أهدافه السياسية، فقام بعملية تصفية مستمرة للقيادات الجمهورية المعتدلة وإحلال قيادات جمهورية جديدة متشددة محلها تعبر عن القواعد الجماهيرية الجديدة التي اعتمد عليها هذا التحالف مثل اليمينيين المتدينين والجماعات اليمينية الرافضة لثورة الحقوق والحريات.

وبعد صعود القيادات الجمهورية الجديدة تم تركيز السلطة داخل الحزب الجمهوري بأيدي تلك القيادات مما مكنها من معاقبة ومكافأة قيادات الحزب الجمهوري وفقا لمدى التزامها مع أجندة التحالف اليميني الجديد الحاكم.

وبهذا امتلكت القيادات الجمهورية الجديدة سلطات غير مسبوقة داخل الحزب الجمهوري وداخل النظام السياسي الأميركي نظريا، أغرت أصحابها وجعلت أخطاءهم باهظة عالية التكاليف.

أما الكتاب الذي تمكن باقتدار من تشريح أهم تحديات التحالف اليميني الأميركي الحاكم فهو كتاب "أمة اليمين: قوة المحافظين في أميركا" لمؤلفيه إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت الصادر في عام 2004.

هدف كتاب "أمة اليمين" لم يكن رصد أسباب ضعف التحالف اليميني الحاكم ولكنه كان -على النقيض- معنيا برصد أهم أسباب قوة هذا التحالف التي رصدها بعناية ودقة فائقتين إلى درجة أنه أصبح نموذجا للكتب التي تنظر لمظاهر وأسباب قوة اليمين الأميركي في الوقت الحالي.

وقبل نهاية الكتاب طرح مؤلفاه سؤالا هاما وهو كيف يمكن أن يتراجع اليمين الأميركي على الرغم مما يمتلكه حاليا من نفوذ وسيطرة كبيرتين؟

وهنا تنبأ المؤلفان بأن التحالف الأميركي الحاكم يعاني من خطرين عظيمين يهددان مستقبله، أولهما الغرور والإفراط في استخدام القوة، وثانيهما الشعور بالقوة والانشغال بالمنازعات الداخلية على حساب الانشغال بحماية القوة وزيادتها.

وقد صدقت نبوءة المؤلفين بشكل كبير، فقبل أيام قليلة من انتخابات يتوقع الكثيرون أن يلقى فيها الجمهوريون هزيمة ثقيلة، نجد أن الجمهوريين يعانون حاليا بسبب أخطائهم بشكل أساسي أكثر من معاناتهم من منافسة خصومهم الديمقراطيين.

فالتحديات الكبرى التي يواجهها الجمهوريون حاليا هي أخطاء من صناعة أيديهم وعلى رأسها حرب العراق وفضائح الفساد وسوء استغلال السلطة التي مست عددا كبيرا من قياداتهم بالكونغرس وبالبيت الأبيض، إضافة إلى الانقسامات التي زرعتها سياسات الإدارة الأميركية في أوساط الجمهوريين أنفسهم، إذ لم تحرص على خفض ميزانية الحكومة الفدرالية وبرامجها كما يريد المحافظون التقليديون.

كما انتهجت الإدارة في قضايا الحقوق والحريات المدنية سياسات أثارت حفيظة كثير من الجمهوريين المعنيين بتقليص نفوذ الدولة وقدرتها على التدخل في حياة الأفراد، إضافة إلى موقف بعض قيادات الجمهوريين في مجلس الشيوخ من أمثال تشك هيغل وجون ماكين الذين عارضوا سياسة الإدارة الأميركية في إدارة الحرب على الإرهاب وفي التعامل مع قضايا حقوقية حساسة مثل تعذيب المعتقلين.

أضف إلى ذلك موقف الإدارة المتردد من قضايا الهجرة، إذ لم تتمكن من وضع برامج عفو واسعة عن المهاجرين بشكل يحسن سمعة الجمهوريين وسط الأقليات اللاتينية المتنامية، مع علم الإدارة بحاجة الجمهوريين المتزايدة في المستقبل لأصوات الأقليات والمهاجرين.

كما فشلت الإدارة في نفس الوقت في إقناع القواعد اليمينية المحافظة بضرورة التخلي عن بعض أفكارها المتشددة ضد المهاجرين مثل بناء الأسوار على الحدود لمنع تدفق المهاجرين.

لذا يجد التحالف اليميني الحاكم نفسه اليوم في مأزق لا يحسد عليه صنعه لنفسه بالأساس، فغرور الجمهوريين بقوتهم غير المسبوقة دفعهم إلى ارتكاب أخطاء كبيرة وخطيرة حتى أصبح الالتصاق بسياسات الإدارة والجمهوريين حاليا تهمة يسعى الجمهوريون أنفسهم للتبرؤ منها.

فهم أسباب أزمة اليمين الأميركي خلال الفترة الحالية يدفعنا إلى الاعتقاد بأن التحالف اليميني الحاكم مازال قادرا على الخروج من كبوته الحالية إذا امتلك الشجاعة على الاعتراف بأخطائه وعلى تغيير سياساته، إذ التحالف اليميني الحاكم تحالف واسع يمتلك قواعد جماهيرية عريضة.

كما أن التحالف اليساري المعارض له يواجه عددا لا يستهان به من المشكلات على رأسها تآكل قواعده الجماهيرية التقليدية -كالمنظمات العمالية على سبيل المثال– لأسباب عديدة ومختلفة، كما أن الديمقراطيين مازالوا يفتقرون إلى رؤية وأفكار جديدة كبيرة قادرة على مواجهة مشاكل المواطن الأميركي الجديدة مثل تحديات الإرهاب والعولمة والتعددية الثقافية والعزلة السياسية.

أما السيناريو الأسوأ فهو أن يستمر الجمهوريون في سياساتهم الراهنة مكتفين بإجراء تغييرات محدودة على قياداتهم، وبالتركيز على مواجهة خصومهم وكيل الاتهامات لهم، وبرفع أصواتهم أعلى من خصومهم من خلال أبواق المحافظين الجدد وقيادات الإنجليين ووسائل الإعلام اليمينية ودعم أثرياء الحزب وقيادات الجنوب.

أما الخاسر الأكبر فسوف يكون المواطن الأميركي العادي الذي بات يشعر أكثر من أي وقت مضى بالعزلة والهامشية وعدم القدرة على التأثير على مخرجات النظام السياسي الأميركي.

علاء بيومي

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...