أزمة الحجاب في مصر
شغل الحجاب مصر بأكملها وبمختلف أطيافها من خلال أزمة كبرى يصعب اختزالها في مواجهة بين مستنيرين وظلاميين. فالأزمة التي أشعلها كلام نُسب إلى وزير الثقافة المصري في إحدى الصحف، وتضمن نقدا للحجاب والمحجبات، إنما تعبر عن حال مصر اليوم، وربما حال العرب عموما بأشكال ودرجات متفاوتة.
فمصر، التي صغرت، لا تحفل نخبها السياسية والثقافية في معظمها إلا بكل ما صغر من قضايا، أو بما هو متهافت في القضايا الكبيرة التي يجري تسطيحها من دون هوادة في الجدل العام. ومرد ذلك إلى انحدار مستمر ومتسارع في مستوى الأداء ومعدلات المعرفة لدى هذه النخب في المجتمع. ويرتبط ذلك بفراغ سياسي بدأ بتأميم السياسة وتجفيف منابعها في المجتمع قبل ما يقرب من نصف قرن، واستمر لأن أصحاب المصلحة في وضع حد لهذا التأميم كانوا - ومازالوا - أصغر من أن يملأوا الفراغ.
ومصر، التي يفتقد نظامها الحاكم وقواها المعارضة إلى عقل موجه، تغرق في حال من العشوائية لا سابق لها في تاريخها الحديث. فلا مشروع للمستقبل، ولا أحد يعنى بمثل هذا النوع من المشروعات.
فنظام الحكم بحكومته وحزبه يدير البلد يوما بيوم. والأكثر كفاءة بين رجاله يعمل وفق خطة قصيرة المدى في مجاله. وغالبا ما تكون هذه الخطة منبتة الصلة بأي مجال آخر يخرج عن نطاقها. ولذلك يفتقد هذا النظام الحد الأدنى من التضامن، ويفتقر إلى الشعور بالمسئولية التضامنية. وعندما أعلن المتحدث باسم مجلس الوزراء أن الحكومة ليست طرفا في أزمة الحجاب الأخيرة في لحظة انهالت فيها المطارق على رأس وزير في هذه الحكومة، كان يعبر عن حال نظام الحكم الذي أصابه تفكك تدريجي وتحول من «الفرعونية السياسية» إلى «المملوكية السياسية» نسبة إلى تلك الصيغة التي سادت العلاقة بين الأمراء في عصر المماليك.
ومن شأن العشوائية الضاربة في السياسة والمجتمع على كل صعيد، وليس فقط على مستوى نظام الحكم، أن تتيح للقوى الأكثر تنظيما إمكانات واسعة لملء الفراغ السياسي والاجتماعي. ويحدث ذلك في ظل ميل متزايد إلى الأسلمة الاجتماعية والثقافية يعتبر الحجاب أحد أبرز مظاهرها. ولكن المستفيدين من هذه الأسلمة يفتقدون بدورهم مشروعا واضح المعالم للمستقبل.
ولهذا كله فإن أزمة الحجاب الأخيرة، التي لم تنته فصولها، تعبر عن حال مصر اليوم خير تعبير. وما كان لأزمة من هذا النوع أن تُحدث كل ما أحدثته من تفاعلات وأصداء إلا في مثل هذه الحال.
فقد أخذت الأزمة الصغيرة بطابعها حجما كبيرا بل هائلا لأنها حدثت في لحظة أصبح نظام الحكم والمجتمع من الهشاشة إلى حد أن أي أزمة يمكن أن تهزهما من الأعماق. فقد ازدادت التفاعلات العشوائية في المجتمع باستثناء ما كان منها متعلقا بالقوى الإسلامية الأكثر تنظيما. كما ازداد نظام الحكم ارتباكا. وكان لهذا الارتباك أثر مباشر في مفاقمة الأزمة، وخصوصا ما أدى إليه من أخطاء ارتكبها بعض أركانه. فقد أخطأ رئيس البرلمان مثلا في معالجة الأزمة، عندما فتح نقاشا عاما حولها بعد أن كان أحالها إلى إحدى اللجان. وكان عليه أن ينتظر حتى انتهاء هذه اللجنة من عملها. كما أخطأ وزير الثقافة عندما امتنع عن التوجه إلى البرلمان ومناقشة أعضائه الغاضبين، ومعظمهم من نواب الحزب الحاكم الذي ينتمي هو إليه فعلا أو اسما. فكان من شأن حضوره في البرلمان أن يوضح بعض ما لم يدركه النواب الغاضبون، وأن يحتوي بعضا من هذا الغضب أو الكثير منه.
غير أن عجز نظام الحكم عن إدارة الأزمة حولها من خلاف يمكن أن يكون عاديا على حجاب المرأة إلى ما يمكن أن يكون نقطة تحول ينتقل فيها هذا الحجاب من رؤوس نحو 80 في المئة من النساء إلى رأس الدولة نفسها، لكن في ظروف مختلفة كثيرا عما يحدث في تركيا التي تشهد بدورها منذ سنوات تحولا يبدو مماثلا في الشكل ولكنه مختلف في السياق وفي المحتوى.
ففي كل من البلدين أسلمة اجتماعية وثقافية تجتاح المجتمع وتجرف معها العلمانية المتطرفة التي أرساها كمال أتاتورك في عشرينات القرن الماضي، والطابع المدني للدولة الذي وضع محمد علي ركائزه في مطلق القرن السابق عليه.
وبدأت هذه الأسلمة في الانتقال من المجتمع إلى الدولة مع اختلاف كبير يعود إلى عاملين:
أولهما طابع نظام الحكم في البلدين، خصوصا من زاوية تواتر اتجاه النظام المصري منذ ثورة 1952 إلى توظيف الدين لدعم شرعيته ولتمرير بعض سياساته. ولذلك فعندما انقلب معظم أعضائه في البرلمان على أحد وزرائه في أزمة الحجاب الأخيرة، لم يكن المشهد جديدا إلا في مدى فجاجته. وثانيهما الطابع السائد للنخبة في كل من البلدين، وما يرتبط به من تفاوت ملموس في مستوى التطور السياسي والاقتصادي لمصلحة تركيا.
فالنخبة السياسية والثقافية (حاكمة ومعارضة)، كما الاقتصادية، في تركيا أرقى وأكثر معرفة وأوفر حرصا على المصلحة العامة. والصراع الثقافي - السياسي على الحجاب، كما على غيره، في تركيا يرتبط بمشروعين متنافسين، لكنهما ليسا متناقضين تماما ولا فيهما هذا التناحر الذي نراه في مصر في غياب مشاريع للمستقبل. فالحجاب بالنسبة إلى «الإخوان المسلمين» وغيرهم الإسلاميين في مصر، ليس أكثر من رمز لصعودهم الذي تكثر فيه الرموز بلا مضمون واضح حتى الآن. وهو، بالنسبة إلى الحزب المصري الحاكم، موضوع خلافي ولكن بشكل شديد العشوائية. فلا عيب أن يوجد في داخل أي حزب خلاف إزاء أية قضية ما دام هناك أساس لهذا الخلاف واتجاهات أو أجنحة محددة ولكل منها رؤيته. غير أن هذا أبعد ما يكون عن الحزب الحاكم في مصر، وتجاه موضوع الحجاب تحديدا.
ففي هذا الحزب علمانيون، وفيه من يرون العلمانية شيطانا رجيما. ولكن هؤلاء وأولئك هامشان صغيران. أما الغالبية الكبيرة من أعضائه، وخصوصا بين نوابه في البرلمان، فينضمون إليه من منطلق مصالحهم مع أجهزة الدولة المختلفة، ويغادرونه وينقلب عليهم بعضهم حال انتفاء هذه المصلحة. ولذلك وقف معظمهم ضد وزير الثقافة في «حكومتهم» في أزمة الحجاب الأخيرة، وأمطره بعضهم هجاء وشتما، لأن مصلحتهم الانتخابية تقتضي ذلك. فقد استثمر هؤلاء وقتا وجهدا في الظهور بمظهر أهل «التقوى» في منافسة ضارية ضد منافسيهم من «الإخوان المسلمين». ففي مصر التي صغرت، تدنى مستوى الحملات الانتخابية. وفي ظل فراغ سياسي، يجري «تديين» مساحة واسعة في هذه الحملات عبر التركيز على قضايا من نوع الحجاب وما هو أقل أهمية.
وهذا المستوى الذي هبطت إليه المنافسات السياسية والانتخابية في مصر يجعل انتقال الحجاب من المجتمع إلى الدولة مختلفا عنه في تركيا التي يحدث فيها هذا الانتقال عبر صراع شديد بين الحكومة الإسلامية ومؤسسات أخرى في الدولة التي مازالت علمانية بحكم الدستور.
فقد فرض الحجاب نفسه على الدولة التركية العلمانية لأن زوجات رئيس الحكومة ورئيس البرلمان ومعظم الوزراء محجبات. والقانون التركي يمنع ارتداء الحجاب في دواوين الحكومة والمدارس والجامعات العامة، وليس في المناسبات الرسمية التي تحضرها زوجات كبار المسؤولين مع أزواجهن.
غير أن ما يميز الخلاف على الحجاب في تركيا هو أنه يدار بشكل أرقى منه في مصر. كما أنه لا يشغل الأتراك عن القضايا الكبرى بخلاف الحال في مصر التي تختفي فيها هذه القضايا وراء ركام من صغائر الموضوعات. وفي تركيا، إلى ذلك، حوارات هادئة ومجادلات موضوعية تطرح فيها أفكار وتُقرع فيها الحجج بمثلها إلا قليلا، بخلاف الحال في مصر حيث تسود المهاترات والمزاودات ويكثر العنف اللفظي ويعلو الصراخ والضجيج إلا قليلا.
ولذلك يصعب تصور أن تقود أية أزمة حول الحجاب في تركيا إلى مثل ما قادت إليه الأزمة الأخيرة في مصر، خصوصا إنشاء لجنة للثقافة الدينية في وزارة الثقافة تضم رجال دين مسلمين ومسيحيين للبحث في ما أطلق عليه القضايا الحساسة. وإذا أدى ذلك إلى إخضاع الثقافة إلى رقابة دينية مباشرة، على ما هو متوقع من هذا الترتيب الجديد، لن يقتصر الحجاب في انتقاله من المجتمع إلى الدولة على رأسها وإنما سيغطي أيضا عقلها الضامر.
وحيد عبد المجيد
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد