«مقام الأربعين»: جبينُ دمشق المنسي
في طريق حجري وعر يتداخل بالمنازل، ويتكئ على جبل قاسيون، تمتدّ سبعمئة درجة متفاوتة الطول والعرض، من منطقة «الشيخ محيي الدين» قرب حيّ «الميسات»، وصولاً إلى أعلى قمم جبل قاسيون. هنا، يتربّع مبنى ذو قبة خضراء صغيرة، يُعرف باسم «مقام الأربعين». لا يبدو الاسم غريباً عن سكان العاصمة السورية، لكنّ صعوبة الوصول إليه جعلت منه معلماً مجهولاً بالنسبة إلى كثيرين، عاشوا سنين طويلة بقربه، ولم تسمح الفرصة بصعودهم إليه، ومعاينة إطلالة ساحرة على دمشق. زادت الأزمة التي عاشتها البلاد من عزلة «المقام»، إذ أُغلق الطريق الوحيد نحوه، ليغدو مكاناً شبه منسي. أخيراً، أُعيد فتح الطريق، وبات الصعود «مسموحاً من دون موافقة». لا يُخفي المقام حاجته إلى الترميم والاهتمام، فقد أكل الإهمال قشرة جدرانه، وتركت السّنون بصماتها على درجاته المتكسرة،إضافة إلى قبته الهرمة، المكسوة بالغبار والأتربة، من الداخل والخارج.
يفتقدُ المكان أبسط مقوّمات استنهاض الخدمة السياحية فيه، مثل مياه الشرب، أو أدلّاء سياحيين، وكتيّبات للتعريف بالمقام وتاريخه، أو حتى مراحيض نظيفة.تتعدّد الروايات حول سبب تسمية المقام، وقصّة «مغارة الدم» المجاورة. يذهب البعض إلى أنّ المغارة «شهدت أول جريمة قتل في التاريخ، حين قتل قابيل أخاه هابيل». في منطقة ميسلون المجاورة، يوجد قبرٌ طويل يكمل الحكاية، ويقال إنّه «قبر أوّل ضحية على الأرض»، أي هابيل. يقول خادم «مقام الأربعين»، محمد مخلف المحمد، عن مغارة الدم: «هنالك صخرة يميل لونها إلى الحُمرة، وتمثّل الأداة التي قتل بها قابيل أخاه، فتصدّع الجبل لهول الجريمة، وظهرت هذه المغارة الصغيرة». ويضيف: «أما تسمية الأربعين، فيُقال إن أربعين محراباً داخل المقام، تعود لأربعين وليّاً تعاقبوا على هذا المكان، ويُسمّون الأبدال، وإن دمشق محفوظة ومحروسة ببركة هؤلاء الأولياء». وبغضّ النظر عن صحّة هذه الروايات، يشعر أبو محمد بالسكينة والبركة في هذا المكان، ويصفه بـ«الخلوة المحببة إلى قلبه، والمكان البعيد عن ضجيج المدينة وأضوائها»، وهي النقطة التي يراها جميع سكان دمشق، ولا يصل إليها إلا البعض منهم.
يستغرقُ الطريق صعوداً نحو ساعة من الزمن، وأقلّ من ذلك للنزول. وتُشرف العيون على دمشق من كلّ زواياها خلال الارتقاء شيئاً فشيئاً، حتى الوصول إلى القمة الجرداء. ويجهدُ معظم من يصل إلى هناك في أن «يتقرّب من الله بالصلاة والدعاء وطلب الرزق والاستشفاء»، ويقصدُ المكان السيّاح والشباب في رحلات انقطعت خلال سنوات الحرب، وبدأت تعودُ تدريجاً. تبدأ الرحلة عادة بعد منتصف الليل، إذ تستمتع العين بتأمل النجوم، وخطّ الأفق الذي يزدادُ وضوحاً مع ساعات الفجر الأولى، وينتهي السيران مع أذان الصبح، في الوقت الذي تصدحُ فيه مآذن دمشق معلنة بدء يوم جديد، محروسة بـ«الأربعين وليّاً».
ماهر المونس
إضافة تعليق جديد