«حماية مشاعر المؤمنين» في موسكو التي «لا تؤمن بالدموع»
أثناء رحلة ليلية في موسكو، ينتفض الصديق الدكتور جورج حبيقة في وجه دليلتنا السياحية الممشوقة القوام. تنفعل الفتاة العشرينية، المتخرجة حديثاً من «جامعة الصداقة بين الشعوب». ولا تفهم سرّ انتفاضة الشيوعي القديم في وجهها. الرحلة السياحية نفسها، بدءاً من وسط العاصمة الروسية، حيث الساحة الحمراء وأمجادها اللينينية، وجدار الكرملين، وتمثال الماريشاليست جوكوف قائد جيوش الرفيق ستالين، إلى «لينينسكي براسبيكت» وزواياه السوفياتية. الرحلة تغيرت معالمها خلال عقدين، ولم يتغير مسارها. اختفت منها، لفظياً، كل معالم «الرفاق»، لتحل محلها الكنائس بمطوّبيها، والكاتدرائيات بقديسيها.
خمسة وعشرون عاماً مرت غيّرت المعالم وأخفت عدداً من الأسماء «إلى غير رجعة». هي «سطوة الكنيسة الأرثوذكسية»، التي ثار في وجهها جورج، فجعلته مع رفاقه جزءاً من ماضي «موسكو التي لا تؤمن بالدموع» (عنوان فيلم سينمائي شهير للمخرج فلاديمير مينشوف، 1979). لكن جورج سيكون عليه أن يدفع ثمن «ثورته» في ما لو كان سيقوم بها في تموز الجاري.. كيف؟
قبل أيام، صُلّت «سيف ديموقليس» على رقاب نقاد الكنيسة، رسمياً، فتمت المصادقة النهائية على قانون جديد «لحماية مشاعر المؤمنين» في روسيا الاتحادية. وتصل عقوبة خرق هذا القانون إلى السجن لمدة ثلاث سنوات، بينما يتخوف الخبراء من إمكانية التطبيق التعسفي لهذا القانون. ويدخل القانون حيز التطبيق مطلع هذا الشهر. وقد اتخذ الاستعراض الاحتجاجي، الذي قامت به فرقة «بوسي رايوت» في كاتدرائية «المسيح المنقذ» في موسكو، حجة، لحماية مبالغ فيها، ربما، لتلك المشاعر.
بموجب التعديلات الجديدة على القانون الجنائي، يعاقب القانون على «أي فعل علني يعبّر بشكل واضح عن عدم احترام المجتمع، ويقصد منه الإساءة لمشاعر المؤمنين»، بمخالفة مادية تصل إلى ثلاثمئة ألف روبل (9300 دولار)، أو السجن لمدة أقصاها سنة. وإذا حدثت الجريمة «في مكان مخصص للعبادة»، فتصل العقوبة إلى خمسمئة ألف روبل (15400 دولار) أو السجن لمدة أقصاها ثلاث سنوات.
لكن «إهانة المشاعر الدينية للمواطنين»، كانت مدرجة في قانون العقوبات الإداري في السابق. وكانت عقوبتها غرامة مالية لا تتجاوز ألف روبل (30 دولاراً). ويلفت ميخائيل فيدوتوف، رئيس مجلس حقوق الإنسان، الذي يرعاه رئيس الاتحاد الروسي، للزميلة يوليا بونوماريوفا («روسيا ما وراء العناوين»)، إلى أن القانون الذي أقر خلال مدة قياسية لم تتعد الشهر، «تمت صياغة مواده بنجاح كبير». فبالمقارنة مع الصيغة الأولى لمشروع القانون، التي قدمت في أيلول 2012، تم تخفيض الحد الأقصى للعقوبة من خمس سنين إلى ثلاث. أما الصيغة الماضية «إهانة المعتقدات والمشاعر الدينية» فقد تم تعديلها لتصبح «الفعل العلني الذي يقصد منه إهانة المشاعر الدينية للمؤمنين».
ويؤكد فيدوتوف، أنه سيكون من غير الصحيح تفسير هذه المادة كمعاقبة على إهانة المشاعر الدينية، وقال: «هنا يجب أن يكون الفعل مثبتاً، حيث يجب أن يكون القصد من الفعل هو إهانة المشاعر الدينية». فمجرد القول إن «الله غير موجود»، لا يمكن اعتباره خرقاً للقانون. ولكن «إذا أتى شخص إلى المعبد وهو يحمل لافتة كُتب عليها «الله غير موجود»، أو نادى بهذا الشعار في المعبد، فإن هذا الفعل سيكون خرقاً واضحاً للقانون».
«حماية مشاعر المؤمنين»، مفهوم مطاطي، يثير جدلاً واسعاً في عاصمة القياصرة. ذلك فيما تزحف نحو روسيا أكثر الأفكار السلفية تطرفاً. وتزخر مواقع التواصل الاجتماعي الناطقة بالروسية، وعلى رأسها «أدنوكلاسنيكي»، و«فكونتاكتي»، بآلاف «المجموعات»، و«الصفحات»، السلفية والتكفيرية، المحرضة بشكل مباشر أحياناً، وبشكل غير مباشر معظم الأحيان، ضد كل ما يتعلق بالشعب الروسي كـ«شعب أرثوذكسي». ويمهد ذلك لبيئة غير صحية على الأطراف الجنوبية لروسيا، أي في الدول الوسط آسيوية المستقلة، وفي الدول ذات الغالبية المسلمة، داخل حدود روسيا الاتحادية. وقد رحب نائب رئيس «مجلس مفتي روسيا» روشان عباس، باعتماد القانون الجديد وقال: «سوف يساهم هذا القانون في تبريد كثير من العقول الساخنة، وسوف يمنع كثيراً من الأفعال المتهورة التي تهدف إلى التحريض على الكراهية العرقية والدينية». وقد أصر «مجلس حقوق الإنسان»، على أن يتم تطبيق تلك المادة، فقط في الحالات التي ترفع فيها دعاوى من «المجني عليهم». ولكن تم رفض هذا الاقتراح. لذلك «يسمح الإصدار الحالي لهذه المادة القانونية بتوجيه التهمة لأي مواطن على أساس ضبط من الشرطة».
ويعتقد عميد كلية علم الاجتماع والسياسة، في «الجامعة المالية الحكومية» ألكسندر شاتيلوف، أنه «يتوجب على الحكومة تطبيق القانون بشكل متوازن، وبصراحة سيكون من الصعب تمرير هذا القانون بدون تقديم تنازلات لمصلحة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية»، ووفقاً له: «تشن وسائل الإعلام الليبرالية حملة ضغط على الكنيسة الأرثوذكسية، وعلى البطريرك كيريل، حيث يثير تأييدهما للسلطة عدم ارتياح المعارضة».
«سطوة الكنيسة» تظهر جلية في موسكو بعد عقدين على انهيار الاتحاد السوفياتي. الأماكن نفسها، وإن تغيرت بعض الأسماء. واللغة نفسها، وإن تزينت ببعض المفردات الوافدة من الغرب. إلا أن المشاعر ليست نفسها، ولن تجد من يحميها بموجب قانون. فحتى «جامعة الصداقة بين الشعوب»، التي هدفت من خلال الرحلة الليلية أن تعيد إذكاء الحنين في قدامى طلابها، تخلت عن اسم المناضل الأفريقي «بياتريس لومومبا».
عماد الدين رائف
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد