«انفصال البصرة» ينبعث مجدداً: رفض سياسي وتحذير من «المافيوية»
مطلع الأسبوع الماضي، صوّت 20 عضواً (من أصل 35) من مجلس محافظة البصرة لمصلحة تحويل الأخيرة إلى «إقليم مستقل»، ومن ثم أحالوا طلبهم على مكتب رئيس الوزراء، الذي من المفترض أن يحيله ــــ بدوره ــــ على «المفوضية العليا للانتخابات في العراق». وفي هذا الإطار، قال رئيس مجلس المحافظة، صباح البزوني: «إننا سلكنا الخطوات التي ينص عليها الدستور والقانون... للمضي قدماً نحو تمرير هذا القرار»، لافتاً إلى «وجود مدة حدّدها الدستور لإجراء استفتاء حول الموضوع»، مضيفاً أن «الحكومة خاطبت رئيس الوزراء لإحالة الطلب على مفوضية الانتخابات، ونحن بانتظار الرد». هذا السيناريو يحيل على موقفين مشابهين شهدهما عاما 2010 و2018، وذلك عندما وقّعت غالبية أعضاء مجلس المحافظة على طلب تحويل البصرة إلى «إقليم». حينها، أُرسل الطلب، أيضاً، إلى رئاسة الوزراء لترسله بدورها إلى «مفوضية الانتخابات». لكن السياسة الحكومية ــــ في الحقبتين ـــ أطفأت حماوة المشروع، ولم تبادر في أيٍّ إجراء من شأنه نقله من الإطار النظري إلى الإطار العملي.
وكانت أولى محاولات الانفصال الحديثة عام 2008، عندما قاد القاضي والسياسي، وائل عبد اللطيف، حراكاً في هذا الاتجاه، وتمكّن من الحصول على 2 في المئة من أصوات الناخبين، ليعود ويقدّم طلباً إلى «مفوضية الانتخابات» لإجراء استفتاء هدفه الحصول على 10 في المئة من الأصوات، لكن ذلك لم يحصل. إلا أن مطلب الانفصال يعود، فعلياً، إلى حقبة تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921. يومها، هيّأت «الفاعليات» البصرية نفسها لإنشاء «إقليم مستقل»، مع مجيء الملك فيصل إلى العراق لتأسيس الدولة ورسم حدودها. كان رأي تلك الفاعليات أن «بغداد لا تفهم في البحر، ونحن نعتاش منه»، وهي أبدت قبولها فكرة إنشاء الدولة، ولكن بصورة كونفيدرالية. إثر ذلك، سافرت هذه الوجوه إلى العاصمة البريطانية لندن، وفي أحد مكاتب المحاماة هناك كتبت وثيقة سُمّيت «دستور الاتحاد بين العراق والبصرة»، عكست هواجسها ومطالبها، وعُرفت لاحقاً بـ«وثيقة الانفصاليين البصاروة».
استباق الصيف
ويستبق الحراك المستجد حلول فصل الصيف بشهر أو أكثر، خصوصاً أن المحافظة تعيش في هذا الفصل أجواء حارة تصل درجة الحرارة خلالها إلى 50 مئوية، وتقترن بتظاهرات شبه دائمة، مثلما حدث العام الماضي. وبناءً عليه، يرى البعض أن «دعوات مجلس المحافظة لإعلان الإقليم، ورقة ضغط على الحكومة الاتحادية»، مثلما يقول النائب عن المحافظة، عامر الفايز (تحالف الفتح)، في تصريح إلى «الأخبار»، معتبراً أن «الحكومة المركزية سوّفت القضية، ووعدت باتخاذ إجراءات عدة من أجل إصلاح الوضع الأمني والخدمي في المدينة، ولا سيما بعد أزمة المياه والكهرباء».
إلا أن عضو المجلس، كريم شواك، يردّ على ذلك بالقول إن «البصرة تطالب منذ 90 عاماً بالإقليم، ولا يمكن اختزال هذا التاريخ والنضال بمسألة استباق فصل الصيف وحرارته، فالقضية أكبر ذلك». ويضيف في حديثه إلى «الأخبار» أن «حكومة عبد المهدي محرجة الآن، وكذلك رئاسة الجمهورية الحامية للدستور، إذ إن تصويت مجلس المحافظة على هذا القرار يعني رمي الكرة في ملعب الحكومة الاتحادية التي عليها الآن الطلب من مفوضية الانتخابات إجراء استفتاء شعبي وتوفير المستلزمات اللوجستية والفنية لها». ويلفت في معرض حديثه إلى أن «تصويت المجلس تعبير عن رأي الشارع البصري والجمهور عموماً، وفي حال عدم التزام الحكومة هذا المطلب، فإننا نذكّر العقل السياسي العراقي بانتفاضات أهل البصرة: انتفاضة 1921، وانتفاضة 1999، والانتفاضات الأخرى»، متابعاً أنه «عند تسويف المطالب سنعرف كيف نتعامل مع الموقف عندئذ».
مخاوف في بغداد
وفي مقابل حماسة بعض البصريين المتجددة لـ«إقليم مستقل»، يتخوف آخرون داخل المدينة وفي بغداد من تحوّل المحافظة إلى «جزيرة»، تهيمن على قرارها مافيات وعصابات تتاجر بالمخدرات والأسلحة عبر الموانئ، وتستفيد من الموقع الجغرافي والطابع العشائري للبصرة. مخاوف يضاف إليها هاجس تكرار سيناريو «إقليم كردستان»، الذي لا يمكن العاصمة الاتحادية أن تبسط سيطرتها عليه، على رغم أن الدستور أقرّها لها. وفي هذا الإطار، يرى النائب عن المحافظة، عامر الفايز (الفتح)، أن «الأوضاع الأمنية والسياسية التي تعيشها البصرة تحول دون إمكانية تحويلها إلى إقليم».
كلام الفايز يعبّر عن موقف سلبي تبديه القوى السياسية على اختلافها إزاء مطلب «استقلال البصرة». وإذا كانت كتل «الفتح» و«دولة القانون» و«الحكمة» قابلت ذلك المطلب بالتجاهل، فإن «سائرون» جاهرت برفضه وفق ما جاء على لسان النائب محمد الجنابي، الذي رفض تحويل المحافظة إلى «إقليم»، وحذّر من «مساعٍ للاستحواذ على السلطة وزيادة الفساد والمفسدين»، معتبراً أن المشروع «ليس لخدمة أبناء البصرة، بل لسرقة المواطن بعيداً عن رقابة الدولة». وفي الاتجاه نفسه، رأى زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، الداعم لكتلة «سائرون»، أن «الأقاليم ليست حلاً»، معتبراً أن «مسؤولي الإقليم سيسهل عليهم سرقتكم، وسيمعنون في الفساد والظلم، وسيتسلط علينا وعليكم الطامعون من الداخل والخارج... فيسهل احتلالكم»، داعياً إلى «الحفاظ على العراق واحداً موحداً».
هذا الرفض والتجاهل يوجد له تفسيران: أولهما أن مسألة إنشاء «الأقاليم»، وإن كانت مثبتةً في نصوص الدستور، إلا أنها «خطّ أحمر» بالنسبة إلى القوى السياسية التي لا تجرؤ على تأييد مطالب من هذا النوع. وثانيهما أن لا اعتراض مبدئياً لدى تلك الكتل على إنشاء «الأقاليم»، ولكن الخلاف هو حول تقاسم النفوذ فيها. نائب رئيس مجلس المحافظة، وليد كيطان، يميل إلى التفسير الثاني، معتبراً أن الكتل الكبيرة لا تمانع من «أقلمة» البصرة، «خصوصاً أن أعضاءها في مجلس المحافظة هم من صوّتوا على إنشاء الإقليم... وليس هناك رفض معلن من قِبَل جهة محدّدة، حتى مَن لم يصوت على هذا القرار لم يرفضه، بل كانت هناك آراء أخرى». ويستدرك، في حديثه إلى «الأخبار»، بأن «الحراك الدائر في مجلس المحافظة لا يتعلق بجهة سياسية محدّدة، بل بأعضاء المجلس فقط، بمعزل عن توجهات كتلهم الكبيرة»، لافتاً إلى أن «هناك كتلاً قد لا ترغب في ذلك، لكن أعضاء المجلس يمارسون حقهم الطبيعي في اتخاذ القرار».
بدورها، تقول عضو مجلس المحافظة، أنوار المدلل، التي لم تصوّت لمصلحة إنشاء «الإقليم»، إن «تطبيق القوانين العراقية المنصوص عليها في الدستور سيحلّ جميع الإشكاليات، وينصف المحافظة المظلومة، وما تلك الدعوات والإجراءات التي اتخذها المجلس إلا ردّ فعل على تردي أوضاع المحافظة وتجاهلها من قِبَل الحكومة المركزية»، مشيرة، خلال حديثها إلى «الأخبار»، إلى أن «القوانين العراقية والعلاقة بين المحافظات والحكومة المركزية تمنح المجالس صلاحيات واسعة، ويمكن عبر تلك الصلاحيات إنجاز المشاريع وتقديم الخدمات إلى المواطنين، لكن أسّ المشكلة يكمن في تطبيق القانون، الذي منح المحافظات صلاحيات توازي الصلاحيات الممنوحة للأقاليم». وترى المدلل أن «عبد المهدي يسعى لتخفيف زخم مساعي إنشاء الإقليم، عبر إجراءات مختلفة كإرسال هادي العامري إلى البصرة، ليشرف على المشاريع وإدارة المدينة، بمساعدة عادل مهودر، لكن هذا الإجراء زاد من حدّة غضب أهالي المدينة الذين رأوا في ذلك انتقاصاً منهم، وتدخلاً واضحاً في عملهم، خاصة أن المبعوثَين الاثنين من خارجها».
تساهل دستوري في إنشاء «الأقاليم»
ليست آليات إنشاء «الإقليم» بموجب الدستور العراقي بالمعقّدة أو الصعبة، بل فيها من التساهل ما يطرح تساؤلات مشروعة عن الغاية من تيسير إجراءات من هذا النوع. إذ تنصّ المادة 119 من الدستور على أن لكل محافظة أو أكثر «الحق» في تكوين إقليم بناءً على طلب بالاستفتاء عليه، يُقدّم بإحدى الطريقتين:أولاً، بطلب من ثلث الأعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات التي تروم تكوين «الإقليم».
ثانياً، بطلب من عُشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين «الإقليم».
أما المادة 120، فتنصّ على وضع دستور خاص بكل إقليم، من شأنه «تحديد هيكل سلطات الإقليم، وصلاحياتها، وآليات ممارستها، على ألّا يتعارض مع الدستور الاتحادي»، الذي تمنح المادة 121 منه «سلطات الأقاليم الحق في ممارسة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وفقاً لأحكام دستورها الخاص، باستثناء ما ورد فيه من اختصاصات حصرية للسلطات الاتحادية».
الأخبار
إضافة تعليق جديد