«الرفيـق الطليعـي» يتصـدى للامبرياليـّة والرجعيّـة
النداء: كن مستعداً دائماً لبناء المجتمع العربي الاشتراكي الموّحد!
الجواب: مستعدّ دائماً!
قبل أربع وعشرين عاماً، كان على وسام أن يتأتئ الكلمات السابقة، لكنّه كان، ككل الأطفال، «يقرط بتسعة وعشرين حرفاً من أصل ثمانية وعشرين!»، فكان الشعار يخرج من فم ابن السادسة كما يلي:
«كن مثتعتاً تائما لبـناء المثتمع العلـبي الاثتلاكي الموّحت... مثتعت تائماً».
لكن الشعار ستطرأ عليه تعديلات كثيرة وإضافات صــارمة. تلك الإضافات لا تحتمل أي نوع من أنواع «القرط» بالأحرف. فحين سيصبح وسام في المرحلة الإعداديّة، وفي عمر الثانيّة عشرة، كان عليه أن يردّد ما يلي:
ـ النداء: أمّة عربيّة واحدة، والجواب: ذات رسالة خالدة.
ـ أهدافنا: وحدة، حريّة، اشتراكيّة.
ـ قائدنا إلى الأبد: الأمين حافظ الأسد.
ـ عهدنا: أن نتصــدى للامبرياليـة والصــهيونيّة والرجعيّة، وأن نسحق أداتهم المجرمة عصابة الأخوان المسلمين العميلة.
في الثانيّة عشرة من العمر، كان وسام يفعل ما عجز المارد السوفياتي عن فعله: يتصدى لكل من الامبرياليّة والصهيونيّة والرجعيّة ويسحق أدواتها.
لكن هل كان وسام يعرف لمن ولما يتصدى له؟ ستكون الإجابة بـ«لا» بديهيّة وصادقة. كان يتصدى لأشياء يصفها بأنّها «مجهولة تماماً، غير معرّفة أو معروفة»، لكنّه، وبعد أن يضمن عدم ورود اسمه الكامل، يعترف أنّه في الليالي التي تتبع نهارات «التصدي» تلك، كان لا يزال يعيش «مرحلة تدفئة الفراش بالسوائل الصفراء الساخنة!».
تأتأة وسام لشعار منظمة طلائع البعث، جاءت، بعد أن أخبرته أمّه في يوم ما، أنّه غداً «رح يصير شب»، وأنّه سيذهب إلى المدرسة. في صباح اليوم التالي بدأت تتشكّل لديه ملامح المكان الجديد. «المدرسة كانت عبارة عن: الاستيقاظ المبكر للذهاب إلى بناء كبير وغير جميل، مع حقيبة صغيرة أحملها على ظهري تحوي «عروسة» زيت وزعتر، وتفاحة، بالإضافة إلى كتابين ودفترين. ثمّ يأتي الزيّ المدرسي: صدريّة بنيّة غامقة، منديل طليعي أو «فولار»، وطاقيّة أو «سيدارة».. هذه هي المدرسة».
لكن هل كان «الرفيق الطليعي» وسـام يعلـم، مـثلاً، أنّ رؤوس الفولار الذي يرتديه كانت ترمز إلى كل من الأسرة والمدرسة ومنظــمة طلائع البعث، وأن العقـدة التي تشــدّ الفـولار إلى العنــق هي رمز لتعاون هذه المؤسسات الثلاث بهدف «رعاية وتـربية الأطــفال تربية طلــيعية، تكوينــية وتوجــيهيّة»، وفق أدبيـات المنظمة. يأتي الـجواب صريحاً وممزوجاً بالدهشة «عن جد هادا قصـدن بالفـولار، هلأ حــتى عرفت!». لكنّه يستدرك ساخراً «بس أنا كانت عقدتي في المدرسة الابتـدائيّة هي عــقدة الفولار، كنت ضيعها كتير كتير!»، ثمّ يضـيف ضـاحكاً «يمـكن مشان هيك أنا طالع فلتان!».
لم يكن وسام قد فقد قدرته على الدهشـة بعد، فكل شيء في المدرسة أصابه بها: العدد الهائل من الأطفال، الزيّ الموّحد، الساحة الكبيرة، البناء الكبير، غيّر أنّ «الشعار الكبير» السـابق لم يفاجئه؛ وينبــغي للأمر أن يكون مفهوماً كما يقول وسام، «فما الذي سيدهش طفلاً في السادسة من العمر حين تردد على مسامعه كلمات من هذا العيار: مجتمع، اشتراكي، موّحد و... مستعد، لم أكن أفهمها وحسب، لا بل إنّني لم أكن مستعداً لفهمها»!.
لم يكن وسام قد أدرك بـعد أنّه عــضو في منــظمة «شعــبيّة تربويّة هادفة تضم الأطفال الســوريين من الــصف الأول وحــتى الصف السادس» من مرحلة التـعليم التي كانت تــسمى ابتدائيّة وأصبحت تسمى اليوم أساسيـّة، هي منظمة طلائع البــعث. مــع أنّه كان يؤدي تحيّة العلم الذي لم يكن قد عرف بعد مــا هو تـماماً، لكنّه ومن خلال المدرسـة ذاتها سيكتـشف أنّه علـم بلاده، وأنّ ألوانــه لم تأت من رغبة طفل يحب العبث بالألوان مثله، بل جاءت لتدّل على الماضي المجيد و.. الغابر!
يؤدي وسام التحيّة إلى ذاك الماضي، يرفع يده الصغيرة والناعمة، يضمّ أصابعها، ويضعها بشكل عشوائي إلى جانب جبهته، و«يشرئب» برقبته نحو الأعلى. يشدّ قامته التي، ربما، لم تتجاوز المتر آنذاك، ويردد مع المئات من زملائه الأكبر سنّاً نشيداً، اعتبره وسام ـ ولا يزال يعتبره ـ جميلاً: حماة الديار عليكم سلام، أبت أن تذلّ النفوس الكرام، عرين العروبة بيت حرام، وعرش الشموس حمىً لا يضام... لكنّه يتذكر ويعترف الآن، أنّه ما من مرّة كانت تصدح فيها مكبرات الصوت أو أصوات زملائه بالنشيد الوطني وإلاً وكانت أفكاره تسرح نحو التفاحة الشهيّة القابعة في حقيبته الصغيرة، ونحو «عروسة» الزيت والزعتر.
لكن ماذا عن النشيد الطليعي، والصفقة الطليعية، وعيد المنظمة، والقانون الطليعي؟ يعرف وسام الصفقة الطليعية ذات الإيقاع المميّز، حيث لا يزال يؤديها هو وأصدقاؤه حين يريدون السخريّة من «ذكاء مفترض أو إنشاء وطني ارتجالي» يبديه أحد ما. وهو يعرف من النشيد الطليعي مطلعه: للبعث يا طلائع.. للنصر يا طلائع، فقط.
أما عن القانون الطليعي وعيد المنظمة الذي يوافق الخامس عشر من شهر آب، تخليداً لذكرى الزيارة التي قام بها الرئيس الراحل في العام 1975، أي بعد عام واحد على تأسيس المنظمة، بناء على توجيهاته، فلا يعرف وسام عنها شيئاُ! لكنّه يستدرك «ولكن ماذا أعرف حقّاً عن منظمة انتسبت إليّها من دون أن انتبه لمدّة ست سنوات، وخرجت منها، من دون أن انتبه، لأنتسب إلى أخرى، ومن دون أن انتبه أيضاً، سوى إلى اختلاف الاسم؛ إنها: اتحاد شبيبة الثورة..!».
محمد دحنون
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد