جراثيم استشهادية بالفطرة: هل العمليات الاستشهادية فطرة كونية؟!
الجمل ـ عمار سليمان علي:
بصرف النظر عن الحوارات والنقاشات والمجادلات والمماحكات المزمنة حول موضوع العمليات الاستشهادية, من حيث جوازها أو ضرورتها أو جدواها أو ضررها, من النواحي السياسية والشرعية والأخلاقية والإنسانية والفكرية والفلسفية, تزعم هذه المقالة أنها تثير الأمر من زاوية جديدة وغير مطروقة سابقاً, فهي تقارب القضية من الناحية العلمية البيولوجية, عارضة ـ بطريقة موضوعية حيادية ـ اكتشافاً علمياً جديداً من عالم الأحياء الدقيقة, يمكن أن يشكل إضافة نوعية في طريقة تناول موضوع العمليات الاستشهادية بشكل خاص, وموضوع المقاومة بشكل عام.
من المعروف, طبعاً, أن بعض الجراثيم تكتسب أو تطوّر مع الوقت مقاومة ضد أنواع معينة من الأدوية (المضادات الحيوية) وتصبح معندة عليها ولا تتأثر بها, وهذه قضية صحية عالمية تشكل معضلة للأطباء والعلماء الذين باتوا على سباق مع الزمن ومع القدرات الجرثومية, من أجل فهم كيف ولماذا تصبح الجراثيم مقاومة لمضاد حيوي معين, وصولاً إلى تصنيع أجيال جديدة من المضادات الحيوية, تنعدم أو تقل نسبة المقاومة الجرثومية لها, وهو ما لم يتحقق حتى اليوم.
في هذا السياق, نشرت مجلة الطبيعة Nature في 2 أيلول 2010, دراسة حديثة, قام بها فريق من علماء البيولوجيا والأحياء الدقيقة في جامعة بوسطن الأمريكية, تمركزت حول الطفرات الوراثية التي تجعل العصيات الكولونية Escherechia coli مقاومة للمضادات الحيوية, لكنهم اكتشفوا بطريق الصدفة ما يُتوقع ـ علمياً ـ أن يلعب دوراً ريادياً في إطار البحث عن طرق جديدة لمكافحة الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية في جسم الإنسان, وما يمكن ـ فكرياً ـ أن يشكل مصدراً لاستقاء الدروس, ومناسبة لإعادة النظر في مفهومي المقاومة والعمليات الاستشهادية.
والعصيات الكولونية, لمن لا يعرفها, تنتمي إلى جراثيم الأمعاء العادية التي تتعايش مع جسم الإنسان في الحالات الطبيعية, إلا أنها تكون ممرضة أحياناً حيث تسبب الإسهال, وربما ما هو أخطر كالقصور الكلوي والموت. وحسب الدراسة الجديدة, فإن العصيات الكولونية عندما تصبح مقاومة لمضاد حيوي, تطلق جزيئاً يسمى الإندول indole. وقد قام فريق الباحثين باختيار جراثيم إفرادية ضمن حشد جرثومي كبير مقاوم للمضادات الحيوية, فاكتشفوا أن معظم الأفراد ـ كأفراد ـ كانوا أقل مقاومة من المجموعة ككل, إلا أن أفراداً نادرين كانوا أكثر مقاومة من معدل مقاومة الحشد ككل. الأمر الذي أثار دهشة الباحثين, ولم يجدوا تفسيراً للموضوع إلا بكون «العناصر المقاومة تفرز شيئاً ما لمساعدة العناصر الأقل مقاومة على الصمود» على حد تعبير عالم الهندسة الحيوية جيمس كولينز James Collins, وهو أحد المشاركين في الدراسة. وقد اتضح في النهاية أن الجراثيم الأكثر مقاومة كانت تنتج الإندول. وعندما فتش الباحثون عن تبدلات وراثية يمكن أن تفسر إنتاج الإندول, وجدوا طفرات عديدة حَمَت الجراثيم من المضادات الحيوية. وإذ لم يكن هناك مجال لأي إنتاج إضافي للإندول, بدا أن الجراثيم المقاوِمة, المطمئنة البال للمضادات الحيوية, كانت قادرة على أن تحافظ على إنتاج مستوياتها العادية من الإندول, وأن تتشاركها مع جيرانها. بينما الجراثيم التي ليست مقاوِمة للدواء أوقفت صناعة الإندول استجابة للمضادات الحيوية.
لكن المدهش هو أن إنتاج الإندول جاء في النهاية على حساب الجراثيم المقاوِمة, بسبب أنها صرفت المزيد من الطاقة لصناعة الإندول, ولم يتبق لها إلا القليل من الطاقة لتستخدمها في نموها وتكاثرها, فنمت ببطء أكبر من الجراثيم الأخرى المتغايرة (أو الطافرة) التي لم تنتج الإندول, وانتهى بها الأمر إلى الموت. وقد رأى الباحثون أن هذا يشبه الفكرة التطورية المسماة «انتقاء السلالة»kin selection, وهي عملية يمكن أن تعزز البقاء للأقرباء المتغايرين أو الطافرين.
هنا يكمن جوهر الدراسة, وهو أن بعض الجراثيم "ضحّت" بحياتها في سبيل أن تبقى جراثيم أخرى من نفس العائلة, و"استشهدت" ـ إذا جاز التعبير ـ في سبيل استمرار وتعزيز المقاومة للمضادات الحيوية لدى تلك السلالة.
أحد المشاركين في الدراسة, وهو عالم الطبيعيات هاين يوك Hyun Youk من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا, علق على هذه النتائج قائلاً: «لقد طوّرت هذه العصيات الكولونية استراتيجية ماكرة جداً, وهذا يلقي الضوء على مدى صعوبة السيطرة على المقاومة الجرثومية للمضادات الحيوية في الواقع..... إن هذا الاكتشاف هو أول مثال ملاحظ عن الغيرية والإيثار في مقاومة الجراثيم, كما أنه يعزز كذلك الفكرة المتنامية بأن مجموعات الجراثيم يمكن أن تسلك سلوكاً يشبه متعضية متعددة الخلايا أكثر مما هي الفكرة التقليدية عنها».
أما كولينز فلا يتردد في التعبير عن حيرته في سبب وجود هذا النمط من غيرية الجراثيم, لأن المفروض هو أنه «إذا مات عدد أكبر من الجراثيم غير الحصينة, فسيكون ذلك في مصلحة الجراثيم المقاوِمة, التي سيبقى لها مجال أوسع للتضاعف والسيطرة». ويضيف: «ربما تستخدم مجتمعات الجراثيم هذا السلوك كاستراتيجية تساعدها على البقاء, كمجتمع, خلال الظروف القاسية,» موضحاً «أن المحافظة على السلالة الجرثومية ككل سوف يحفظ الطفرات المفيدة في المجموع المورثي للسلالة».
أخيراً لا ينسى يوك أن يوصي بني البشر بألا يستسهلوا تناول المضادات الحيوية, وألا يتناولوها بجرعات غير كاملة, أولاً من أجل التخفيف من مقاومة الجراثيم لها, باعتبار أن الفوضى في استخدامها تشجع تلك المقاومة, وثانياً من أجل تسهيل الأمر على الأطباء وعلى الباحثين, وتصعيبه على الجراثيم, والوصول إلى ما فيه خير الإنسانية ككل في النهاية. فهل يقتنع الناس بذلك ونرى لديهم شيئاً من الغيرية والإيثار الموجودين حتى لدى الجراثيم؟! سؤال لا تبدو إجابته سهلة ولا مبشرة أبداً.
على أن السؤال الأهم والأخطر الذي تطرحه الدراسة هو: هل يمكن/يجوز/يحتمل أن تعتبر العمليات الاستشهادية استراتيجية بيولوجية أو فطرة كونية؟!.
ملاحظة: هذه المقالة منشورة في كتابي "نوافذ على العصر" الصادر عن متجر قرطبة للنشر الالكتروني.. علماً أني كتبتها في نهاية العام 2010 وأرسلتها لعدة منابر لكنها لم تنشر, ربما بسبب موقف من الاستشهاد أو من الجراثيم!
إضافة تعليق جديد