«الإخـوان» ومصــائـر الـربـيــع الـعـربـي

10-05-2012

«الإخـوان» ومصــائـر الـربـيــع الـعـربـي

يعتقد البعض أن هذا المسمّى بالرّبيع العربي ليس أكثر من وميض قصير سيعقبه حتماً خريف أصولي أشدّ قسوة. سيكون خريفاً للعقل والحرية وللمرأة والأقليات. سيكون خريفاً للأمن والسلام والعيش المشترك. سيكون خريفاً طويلاً، قد يستغرق نصف قرن من الزّمن على الأقل، وربما يستغرق قرناً من الفتن التي لا تبقي ولا تذر جرّاء الصعود الانتخابي والميداني الكاسح لقوى الإسلام السياسي، للإسلام السلفي، وللإسلام الجهادي. وبالنسبة لآخرين يتعلق الأمر بطبعة عربية من «الثورة المغدورة» بتعبير تروتسكي، أو من «الآمال المغدورة» بتعبير الحسن بني صدر. لكنها طبعة رديئة هذه المرّة. هذا احتمال أول.
وفي المقابل، يعتقد آخرون أن ربيع الثورات العربية أسقط أسطورة «الاستثناء العربي» التي تزعم أن الديموقراطية لا تلائم الثقافة العربية ولا تناسب الإسلام، وأدخل المجتمعات العربية على حين غرّة إلى عصر صناديق الاقتراع. وهو مكسب لا يجوز إنكاره بأي حال. إلا أنه ليس جديراً بنا أن نجعل من الصعود الانتخابي للحركات الدينية وتوظيف الخطاب الديني للاستقطاب الانتخابي في انتخابات ما بعد الربيع العربي، مؤشراً على حتمية النكوص. إذ هناك دائماً وفي كل لحظة من لحظات التاريخ خيارات متعددة واحتمالات كثيرة. من بين خياراتنا اليوم أن انتقال إيديولوجية الإسلام السياسي من طور المعارضة إلى مجال الحكم والسلطة - لا سيما في تونس ومصر - قد يكون فرصة لتجاوز أوهام الخلاص الديني أو تبددها. وقد تكون الفرصة سانحة لبدء حراك جدي من أجل إصلاح ديني ولاهوتي لا يمرّ بالضرورة عبر حروب دينية إضافية، إذ يكفينا تناحرنا الديني والمذهبي المجاني الذي أغرقنا في أنهار من الدماء منذ حروب الردة وموقعة الجمل والفتنة الكبرى ومعركة النهروان إلى غاية غزوات القاعدة والسلفية الجهادية وأنصار الشريعة في شتى أنحاء المعمورة. لكن، شريطة المحافظة على ثقافة الاحتكام لصناديق الاقتراع أيا كانت النتائج. وهذا احتمال ثان.
بين هذا الاحتمال وذاك، يتأرجح الربيع العربي. وبين هذا المآل وذاك يتردد الإسلام السياسي، فيتقدم بمقدار وينتكس بمقدار.
الدّعوات الهستيرية اليوم إلى تطبيق الشريعة وصيحات الاحتكام لـ «شرع الله»، وتكفير الديموقراطية، هي دليل على أن قوى الإسلام السياسي التي استعملت سلاح الدين قصد الوصول إلى السلطة قد أصبحت بدورها عرضة معارضة غوغائية أكثر غلوا وتطرفاً. كما هو واضح في علاقة الحكومة التونسية الحالية مع أنصار حزب التحرير وعموم السلفيين. جميعنا يتذكر منظر ذلك السلفي الذي قام تلقاء نفسه يؤذن للناس في البرلمان المصري. لكن، لنحاول أن نتذكر أيضاً ماذا قال له رئيس الجلسة المحسوب على التيار الإخواني. قال له بلكنة مصرية: «أنت هنا تُزايد على من؟». مقصود القول، الذي لم ينتبه إليه الكثيرون، أن رئيس الجلسة الإخواني يعلم علم اليقين أن الدين يصلح للمزايدة السياسية ليس إلاّ. لكن المشكلة أنه في عالم السياسة لا سقف للمزايدات الدينية؛ في عالم الجهلوت لعبة المزايدة مفتوحة إلى ما لا نهاية على طريقة «لنجهلن فوق جهل الجاهلين».
وفي المقابل، مشكلة الإسلاميين المعتدلين أنهم يريدون التقدم نحو عصر الحداثة وحقوق الإنسان، وهذا ما لا يمكننا إنكاره عليهم بل سيكون مكسبا صريحا للجميع، لكن الملاحظ أنهم في المستوى الفقهي والكلامي واللاهوتي لم يستطيعوا تجاوز السقف الاجتهادي للإخوان المسلمين. وهو سقف لا يزال متدنياً بالمقارنة مع متطلبات الحريات الفردية والمساواة الكاملة بين الجنسين والحاجة إلى رفع كافة أشكال التحفظ عن المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وحقوق الطفل وحقوق المرأة والنساء العاملات والأمهات العازبات وحقوق المرضى وذوي الاحتياجات الخاصة، وهلم جراً. وفي كل الأحوال، ستكون المعايير الدولية لحقوق الإنسان ومستوى الوعي الحقوقي الكوني، مقاييس حقيقية لمستوى الاجتهاد الديني داخل حقل الحركات الإسلامية.
مؤخراً، تراجع حزب النهضة الإسلامي الذي يقود الائتلاف الحكومي في تونس رسميا عن مطلب تطبيق الشريعة. وهذا مكسب سياسي ينم عن تقدم في الوعي السياسي لا يجوز إنكاره. غير أن اللافت للانتباه أن مثل هذا التقدم في الوعي السياسي لم يوازه أي اجتهاد فقهي قد يضمن له أرضية دينية صلبة. والحال أن الاجتهاد الديني للإسلام السياسي لا يزال إلى اليوم دون مستوى التقدم السياسي الذي حققته الكثير من تيارات الإسلام السياسي.
كتب الشيخ راشد الغنوشي يقول: «لا عجب ان بدت في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان ملامح العلمانية أو الدين البشري القائم على أولوية الإنسان في الوجود وقيامه بنفسه مصدرا لكل حق وتشريع... على حين يؤكد التصور الإسلامي ارتباط كل قيمة واستنادها إلى المصدر الذي تستمد منه الموجودات وجودها والغاية منه ومنهاج سيرها... ألا وهو الله تبارك وتعالى فهو وحده الخالق والمالك مخلوقاته، والمحدد منهاج سيرها»(1). وهنا تعترضنا أسئلة واضحة وصريحة: إذا كان القانون قانونا إلهيا، فأين مكان العقد الاجتماعي؟ أين ممكنات التوافق السياسي؟ أليس المبدأ الناظم للحياة اليوم أن كل شيء قابل للتفاوض؟ فهل يجوز لي أن أتفاوض على «حق الله «؟ وهل تساعدنا المرجعيات السياسية المتعالية والمطلقة، على اكتساب المرونة اللازمة لتحقيق التوافق السياسي؟ هنا تكمن حدود الاجتهاد الفقهي والتجديد الديني والإصلاح اللاهوتي. ما يجعل كل تقدم سياسي تشوبه عوائق في الرؤية الاجتهادية.
لا يتردد الشيخ راشد الغنوشي في إقرار «حق الفرد في اختيار عقيدته بعيدا عن كل إكراه. وقد ضمنت الشريعة للإنسان هذه الحرية (كما يقول)... (مضيفا) وفي الوقت نفسه لم تدخر وسعا في التأكيد على ضرورة إظهار الحق وإقامة البراهين على إقامة العقيدة وتحميل الأفراد والجماعة مسؤولية صيانتها الدفاع عنها، ومنع الفتنة عن معتنقيها ولو باستعمال القوة»(2). وبهذا النحو، تبدو الرؤية السياسية مشوبة بتحفظات فقهية تنتمي إلى العالم القديم. فليس المقصود بالحق هنا غير «الدين الصحيح»، وأما استعمال القوة فلا يرادف بأي حال استعمال القانون.
وكمثال إضافي على التفاوت الحاصل بين الموقف السياسي والرؤية الفقهية، كتب مؤكداً، لقد «كفل الإسلام لأهل كل عقيدة حق إقامة المعابد وإقامة الشعائر بها في حدود رعاية الرأي العام، والذوق العام للأغلبية»(3). وهكذا يبدو كيف أن التسامح في خطاب الإسلام السياسي مرتبط بسقف فقهي واجتهادي شديد التحفظ، كثير اللبس، وحائر يتردّد بين حقوق الإنسان و«حدود الله».
كتب أيضاً يقول بلغة تكاد تختصر كل شيء: «واضح إذاً أن المصدر الأوّل والأساسي لشرعية كل حاكم في النظرية السياسية الإسلامية إنما يستمد من قبوله الكامل الاحتكام إلى شرع الله من دون أدنى منازعة ولا رغبة في مشاركة»(4).
هنا الفيصل الفاصل بين الإسلام المدني، والذي لا يضع أي حاجز نصي أمام العقل الحر والعيش المشترك، وبين الإسلام السياسي والسلفي اللذان ينطلقان من «باراديغم» أن لا اجتهاد مع وجود النص، حتى ولو أن هذا النص قد أنزل في الأصل على سبعة أحرف، وآياته حمالة أوجه.
إذ غاية النص القرآني ليست أن نعبد النص وإنما أن نتعبد به. النص القرآني الذي بين أيدينا ليس مرجعاً أبدياً ومطلق الصلاحية لسن القوانين والتشريعات والأحكام، فهو مقيد باللغة البشرية وبالسياق التداولي للحظة الوحي، وموسوم بثقافة الرسول ووجدانه لحظة «معاناته» في التقاط الإشارات الإلهية «ومحاولة تأويلها وتحويلها إلى كلمات بشرية.
لعل إحدى مزايا الخيال الصوفي قدرته على كسر سلطة «النص المقدس» والذي تحول لدى «الإسلام النصي» إلى اقنوم من أقانيم الألوهية. ولعل نفوذ الإسلام الصوفي في تركيا يظل من بين أهم الأسباب التي تقف في خلفية المظهر الديموقراطي للإسلام الغالب هناك. دون أن ننسى التجربة الديمقراطية في السنغال والتي تستند بدورها إلى قوة وسماحة الإسلام الصوفي الشائع والمنتشر هناك.
لقد وضع الربيع العربي الإسلام السياسي على المحك. لكنه وبنفس المستوى، وضعه أمام مفترق طرق حاسم: الإسلام المدني والإسلام المتطرف.
وفي المقابل، فإن «الهزيمة» الانتخابية لقوى الحداثة في انتخابات الربيع العربي، قد تكون -وكما تكشف الحالة التونسية اليوم- فرصة سانحة لبناء المشروع الحداثي العربي من موقع المعارضة، سواء داخل مؤسسات الدولة أو داخل مؤسسات المجتمع المدني. وهو موقع قد يمنح للقوى المدنية والعلمانية فرصة تنمية مهارات التواصل الجماهيري. وهذا هو المطلوب.
قبل أزيد من عقد من الزمن، كان قرار الجيش الجزائري بإجهاض العملية الانتخابية - التي كادت تحمل التيار الإسلامي إلى السلطة - قد أفرز فرضية كان يصعب دحضها وتفنيذها: لو تركت الفرصة للإسلاميين لربما كان بالإمكان «إسقاطهم» في أي انتخابات لاحقة. وأما لو أنهم تجرؤوا على إجهاض العملية الديمقراطية بدعوى الخلافة والإمامة العظمى والولاية الكبرى وما شابه، فخير لقوى الحداثة أن تكون في موقع مقاومة استبداد ديني على أن تكون في موقع شريك لاستبداد يزعم العلمانية.
مآلات التجربة اليوم لن تكون متشابهة في كافة دول الرّبيع العربي: ففي مصر ليس التحدي سهلا؛ بالنظر إلى حجم انتشار التيار السلفي وضيق الخيال الاجتهادي عند قادة الإخوان المسلمين. غير أن الخيار الباقي أمام قوى الحداثة والتي لا تحسن في الغالب آليات التواصل الجماهيري، ليس التفريط في ثقافة الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، وإنما الخيار الأهم والأسلم الآن وفي كل الأحوال هو المقاومة المدنية وتنمية مهارات التواصل الجماهيري.

سعيد ناشد

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...