مسيحيو أرض الرافدين من أنزل بهم الخراب؟

20-03-2012

مسيحيو أرض الرافدين من أنزل بهم الخراب؟

ماذا حلّ بمسيحيي العراق بعد عقد من الزمن على الاحتلال وبعد أن صار العراق من دون وجود أميركي؟ وإلام آل مصيرهم، ولماذا طاردتهم وطردتهم الأجندات والميليشيات في أرض الرافدين؟ من ساعد في تنفيذ ما حُكي عنه من إفراغ الشرق من مسيحييه؟
تهجير أصل الحضارة العراقية من الكلدان الآشوريين من أرضهم وإرثهم وتاريخهم، يصبّ لمصلحة مَن؟ وبتفويض ممّن؟ أو بسؤال أبسط: مَن المستفيد من ضرب أناس لا يملكون قطعة سلاح أو يشكلون طرفاً في نزاع؟ من ضرب ديانة أساسية في نشأة الوجود العراقي وحضاراته المتعاقبة؟ كنيسة في الموصل بعد إقفالها. يُذكر أن كنائس الموصل تعرضت لسلسلة من الاعتداءات في العام 2009، إلى جانب كنائس أخرى في بغداد وكركوك.
من تبقى في الداخل من مسيحيي العراق ومن غادر، يومئ بإصبعه اليوم إلى دول جوار العراق كما إلى الاحتلال الأميركي، بحسب رئيس الكتلة الآشورية في البرلمان العراقي نيونادم كنا، الذي لم يغفل في حديثه لـ«السفير» من الإشارة إلى دول التطرف الديني في المنطقة، وتحديداً السعودية، ودورها في التحريض على قتل «الصليبيين»، فيما يهدّد بإشعال حرب طائفية في المنطقة برمّتها.
خير دليل على التغيرات الديموغرافية التي رافقت الولادة القيصرية لعراق ما بعد السقوط، كان مغادرة أبناء سومر واكاد وأور وآشور حاضنتهم الأم، مكرهين بفعل عنف الإرهاب والاحتلال، بعد أن مزقا الوصال الذي نسجته عوامل تاريخية وإنسانية ولحمة اخلاقية.
من تبقى من مسيحيي العراق، بعد حادثة كنيسة «سيدة النجاة» وقبلها، يعيشون قلقاً مستمراً أفرزته التجربة المستوردة. تجربة بلغ فيها التطرّف حدّ قتل الناس في بيوت الله، متجاهلاً ما نصّ عليه القرآن من عدم المساس بأهل الكتاب، الذين خطت أناملهم أول دساتير العراق قبل دولة الخلفاء والأولياء ورجال الدين والمعممين.
وبعيداً عن جدليّة المعسكرين، المعتدل والمتطرف، ثمة أسئلة جمّة تكمن بين التفاصيل، كتلك التي عاشها العراق إبان أيام «الفرهود»، حيث منهجة عمليات التهجير لليهود من مستقراتهم وتفجير أديرتهم. الهجمة الممنهجة على مسيحيي العراق، هي كتلك التي نظمت في أربعينيات القرن الماضي، حين عملت الصهيونية كحركة عنصرية، بعد اجتماعات هيأ لها الغرب لإفراغ الشرق في مرحلة أولى من اليهود، ومن ثم نقلهم إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.
استفاق مسيحيو العراق بعد العام 2003 على آية «اقتلوهم حيث ثقفتموهم» مرسومة على كنائسهم وأديرتهم ومنازلهم، وتعرضوا كبقية أبناء البلاد لأسوأ أنواع العنف والقتل والتشريد. وبعد ان كانت لهم أعيادهم وطقوسم ورهبانهم وكنائسهم، التي يفوق عددها الـ 500 كنيسة، لم يبق لهم من الرهبان والكنائس إلا ما قد يعد على أصابع اليد الواحدة.
الاعتداءات بالنسبة لمسيحيي العراق تقف وراءها إصبع خارجية. لكن حين يسمي نيونادم كنا هذه الإصبع الخفية «متحفظاً» يصبح الأمر أكثر إثارة للريبة. ويصبح السؤال الأهم: من المسؤول عن طيّ هذا الملف والحرص على عدم فتحه؟
كانت بداية الهجرة من بغداد ثم امتدت إلى جنوب العراق وشماله، علماً أن المسيحيين فوجئوا في الشمال بأن العمليات ضدّهم أكثر تنظيماً وبوليسية وتهويلاً، حيث حرقت الكنائس وقتل الرهبان في الإقليم الذي تفرض قوات البيشمركة الكردية سلطتها عليه. ثم حوصروا مجدّداً في سهل نينوى، وضربت مناطقهم بقنابل وسيارات محملة بآلاف الأطنان من المتفجرات، بدءاً من تل سقف مروراً بتل كيف والموصل.
«السفير» جالت في أحياء بغداد المسيحية، في بغداد الجديدة وكرادة مريم والبتاوين والدورة وحي الآشوريين، فضلاً عن كنيسة «سيدة النجاة» في كهرمانة، ورصدت ما حلّ بهذه الأحياء من خراب. كما تحدثت إلى رئيس الحركة الآشورية في البرلمان العراقي وفتحت معه ملف استهداف المسيحيين، كما سألت عن أعداد المتبقين منهم، وسبل حمايتهم، فضلاً عن الدور الغربي، والأميركي تحديداً، في هذا الخصوص.
تحدث رئيس الحركة عن مشروع مرتبط باستهداف العملية السياسية في العراق، مشيراً إلى أن البعض، ممن ينفذ أجندات خارجية في العراق بعد العام 2003، اعتبر بأن مسيحيي العراق يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بمسار التغيير، الأمر الذي أدى إلى ضربهم، لزعزعة امن العراق وصولاً إلى الفتنة المرجوة.
أما ما حدث بعد العام 2005، فهو بدء عصابات التطرف بالاعتداء على المكون المسيحي، وتحديداً في يوم 15 آب، ذكرى انتقال السيدة العذراء، حيث كان من المفترض ان يعلن عن دستور العراق الجديد، تم استهداف سبع كنائس: خمس في بغداد واثنتان في الموصل. وكان واضحاً بشكل جليّ أن الأهداف سياسية لجذب انتباه الرأي العام العالمي وضرب العملية السياسية. لم يكن حينها القتل هو الهدف بقدر ما كان الترويع، ولكن مع وصول موجة «الإرهاب الإقليمي»، بدأت تلاحق المسيحيين في بغداد وجنوبها وشمالها حتى نينوى، وبدأ الاستهداف على الهوية حيث وصل معدل القتل اليومي في بغداد إلى 180 جثة مجهولة هوية القاتل والمقتول.
«شملتنا حملات الإبادة هذه على خلفيات دينية، بالتأكيد من قبل جماعات خارجية إرهابية ومبرمجة، ضمن أجندات سياسية أو دينية طائفية ومذهبية» يؤكد كنا، مضيفاً «أما آخر هذه الحملات فكان أبشعها استهداف كنيسة سيدة النجاة، الذي وقف وراءه بعض تيارات دول الجوار التي كانت لهم اليد الطولى في هذه الجرائم لضرب وحدة المجتمع العراقي».
كنا أشار إلى «الدور السافر» الذي لعبته الميليشيات الأميركية ومرتزقة قوات الاحتلال، على حدّ قوله، واصفاً إياه بـ«الدور الأغرب، لا بل الأخطر، في المساعدة على ضرب المسيحيين وسرقة تراثهم من المتحف العراقي وعدم حمايتهم».
ثم تساءل «ما هي المصلحة الأميركية في قصف المتحف الوطني العراقي وفي إحراق دار الحكمة ودار الوثائق العراقية كما ودوائر السجلات ومراكز الهوية العراقية؟»، ليؤكد أن «من بين من جيء بهم ضمن جيش الاحتلال وقواته، كانت هنالك ميليشيات تطوعت في داخل الجيش الأميركي، لديها أجندات تنفذها لمصلحة دول ما وراء الجوار، وليس لأميركا فحسب».
ويضيف السياسي الآشوري قائلاً «كان لدى البعض ممن كان في صفوف الجيش الأميركي حقد على العراق، وهذا موثق لدينا بالدليل وليس كلاماً تحليلياً فحسب. لأن المتحف العراقي تاريخ العراق بابل وآشور أسقطته ودمّرته الدبابة الأميركية».
إضافة إلى ذلك، ان الصراعات الموجودة بين دول الجوار بين بعضها البعض ومع العراق، دفعت بعض هذه الدول إلى استغلال لحظة السقوط أو التغيير لتعيث في الأرض فساداً. في هذا الإطار يشدد كنا قائلاً «نحن لسنا كاليهود العراقيين أو غيرهم كي نهاجر بسهولة. فاليهود قسم منهم لم يكونوا من سكان العراق الأصليين والآخر كان موجوداً منذ أيام السبي البابلي. لكننا اليوم ضحايا، والجماعات التي تهجرنا معادية وليست منا، واي دعوات لإخراجنا من العراق مرفوضة».
وتحدث كنا عن الدور السلبي الذي لعبته دول الجوار في عمليات العنف ضد مسيحيي العراق، مشيراً الى السعودية والجماعات التي تربت فيهــا، برعايــة علنية من قبل بعض مؤسسات التطرف الســني الذي تحملت رعايته المملكة، وفق برامج نقل الصــراع الى الخــارج، وكان العراق ضحية تلك الأزمــات. وفــي هذا الإطار، أكد أن من قاد عملية الإبـادة في كنيــسة «سيدة النجاة» كان سعودياً.
وعن أسباب تعرض المسيحيين في الاقليم الكردي الى هجمات عنف وتهجير، لا سيما أن قوات البيشمركة هي المسؤولة عن أمن الإقليم، قال «في الشمال العراقي، وما يتداخل بهذا الاقليم من مدن وقرى أخرى غير منضوية تحت حكم الاقليم العسكري او الأمني أو الميلشياوي، ضاع الامر واختفت المسؤولية. فقوات التحالف موجودة، والقوات العراقية كما قوات البيشــمركة الكــردية، وقوات أخرى خفية سواء ارهابية ام من بقايا البعــث السابق في المنطقة.. كلها اسهم في الاعتداء على الوجود المسيحي في الشمال».
وعن دعوة رئيس جمهورية العراق جلال طالباني مسيحيي العراق للانتقال الى العيش في الاقليم، والتي عدّها البعض خرقاً واضحاً واستخفافاً بهذا المكون العراقي الاصيل، حيث وجب على الرئيس العراقي دعوتهم الى البقاء في منازلهم وكنائسم وأحيائهم ومدنهم وقراهم، علق كنا مستغرباً «لعل الرئيس يتصور ان هنالك ثمة استقراراً امنياً في الاقليم للمسيحيين. لكن الهجرة مستمرة، فمن لجأ الى الاقليم لم يبق سنة او سنتين ليهاجر بعدها، بسبب انعدام فرص العمل والعيش الكريم، وذلك بسبب التمييز الواضح من الأحزاب الحاكمة هناك». ويتابع «اليوم ثبت لنا بالدليل أن في الشمال العراقي ثمة احزاباً معينة، هي من كانت تقف وراء الاعتداءات في الموصل. وهذه الأدلة والملفات ستخرج قريباً جداً».
في الواقع، إن التشدد الخارجي والتوجه الاصولي الجديد لإفراغ المنطقة من مسيحييها، ارتكز مخططه وثقله على الساحة العراقية، لاضطراب الوضع وغياب الوعي الحكومي او هشاشة الدولة العراقية في الدفاع عن السكان الاصليين في بلاد ما بين النهرين. يضاف الى ذلك تورط مسؤولين عراقيين كبار في عملية التهجير، من أجل الاستيلاء على بيوت المهجرين المسيحيين بأسعار بخسة. وعلى هذا يعلق كنا بالقول «نحن كعراقيين أصليين لا نريد ان يحمينا احد، عدا القانون وحده»، مردفاً «فرضوا علينا في العراق تغيير ديننا او الرحيل. وتصور ان يكون عراق بلا مسيحيين. اعتقد أنه سيكون قندهار ثانية. مع العلم أنه عندما حدثت جريمة سيدة النجاة، اتصلت بأكبر الزعماء السياسيين والذي كان تحكم ميليشياته المنطقة، وقال إنه سحب ميليشياته من محيط الكنيسة وتم تسليم أمن المنطقة الى الداخلية العراقية. اي عندما حكمت الحكومة حصلت الاختراقات. نعم كانت ميليشيات بدر هي من تحكم، وكان التعايش أسلم وأفضل بين المسلمين والمسيحيين. لكن هذا لا يعني في أي حال أن الميليشيات افضل».
وعن نسبة الهجرة بين مسيحيي العراق، قال رئيس القائمة الآشورية في البرلمان العراقي «كان تعداد المسيحيين في إحصاء العام 1997 قرابة المليون والثلاثمئة الف تقريباً، اي بنسبة 2 في المئة من نسبة السكان العراقيين الإجمالية. لم يبق منهم الآن الا 650 الى 700 الف، اي ان نسبة الذين غادروا تفوق النصــف. علماً ان الذيــن هاجــروا ووصلوا الى اوروبا يعيشون وضعاً اقتصــادياً واجتــماعياً صعباً».
أما نسب القتل العشوائي فكانت تفوق الالف مسيحي او اكثر في عموم العراق، من بينهم عشرة رجال دين مهمين يترأسهم الشهيد المطران فرج رحو في الموصل وآباء أجلاء آخرون في «سيدة النجاة»، كما اساتذة جامعيين واطباء، حسب كنا الذي يعلّق قائلاً إن «المشكلة تكمن في البيروقراطية التي تتبعها الحكومة، والفساد المالي والاداري الذي اغفل حتى اللحظة التعويض على ذوي الضحايا، والتحقيق في مصير المخطوفين او اعادة بناء ما دمّر من بيوت الدين والكنائس... وهي مشكلة أورثها الاحتلال الذي الغى وزارة الشؤون الدينية، وحوّلتها الادارات العراقية المتعاقبة الى وقفين شيعي وآخر سني، وهمّش المسيحي في حقوقه كما الايزيدي والصابئي المندائي».
وختم كنا بالدعوة إلى «اعادة ترميم البيت المسيحي العراقي، ابتداء من كنيسة «سيدة النجاة»، التي شكلت لترميمها هيئة رسمية عليا، رصدت مبلغاً لإعمارها يفوق المليونين ونصف المليون دولار، كما من المقرّر أن تدخل كرمز في العملة العراقية المقبلة».

أمين ناصر

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...