أنسي الحاج: بلا رعشة
■ بلا رعشة
يروى أن في الهند مستنقعات مرتعشة بلا رياح. تضطرب كأنّها تهمس أو تُهَمْدِر. بالكاد في الجوّ حدّ أدنى من الهواء. كيف تموج وتقلق هذه المستنقعات ولا ريح تُحرّكها؟
يقال إنّ في أعماق كلّ منها أفعوان الهِدْرَة، الخُرافيّ ذو الرؤوس التسعة، كلّما تمطّى أو تَوَجَّع أو غاظه أنْ ما من شيءٍ أمامه لينقضَّ عليه، انعكس غليانه تموّجاتِ قشعريرةٍ على سطح الماء.
من أيّام، قيل لرجلٍ أمامي إنّ عينيه حجابان يخفيان انفعالاته. وأقرّ الرجلُ بأنّه لم يكن يعرف هذا.
كان يظنّ أنّ وجهه، وأنّ عينيه بالأخصّ، ترتعشان أحياناً بما قد يفيض من عواطفه. وكان ذلك يُطَمْئنه.
لكنّ الشاهد شهد بالحقّ.
هناك أشخاصٌ ينهشهم تنّينهم الداخلي وعلى وجههم سلام.
■ ■ ■
■ أشباح، أرواح
الشَبَح أجناس، مثل أبناء نوح وأبنائهم وأحفادهم إلى الساعة.
من شبح الواحد نفسه، أيّ ظلّه، إلى شبح الجبل أو فيئه في النهار وتهديدُه الصامت في الليل، إلى شبح الغيوم السائرة على القمر، إلى شبح القمر، وشبح أبي هول الجيزة، وشَبَح الروح المبحوح لا تعرف أصديقٌ هو أم شيء آخر...
كنتُ ذات ليل ذات عام مع الصديق سمير عطا الله عائدين من عشاء في باريس لمّا مررنا ببرج إيفل. كان معتماً من صلعة رأسه حتّى آخر أرضه. التفاتة جانبيّة خاطفة منّي رجّفتني كعصفورٍ جريح. تداركني فوراً العزيز سمير، بشفافيّته الحنون، قائلاً بابتسامة مسعفة: «متل الشبح، ما هيك؟». تعجّبتُ من إصابته التشبيه. مئة في المئة. خجلتُ كيف منذ طفولتي عشتُ في فزعٍ مقيم من الأشباح ولم أدرك أنّها أشباح... لم أعرف أن أسمّيها. كأنّي مخلوقٌ سابق لآدم الذي أعطى الكائنات أسماءها. ربّما ليتآلف وإيّاها، ليكبح خوفه منها. بعض التسميات يفتح آفاقاً وبعضها يرسم حدوداً. كلّها يعطي هُويّة. يضع قناعاً على الوجه أو وجهاً على القناع. يضيء. عدم التسمية يطلق العنان للعادي كي يخترق عاديّته ولغير العادي أن يجمح بعيداً في التخييل. عدم تسمية ما يُقلق استسلام إلى غابةٍ من الأعداء.
في بعض الحالات نمارس هذا التهرّب ونمعن في عدم المواجهة رغبةً في معاقبة الذات، أو رغبةً في حمايتها من المعرفة، حيث تتحوّل التسمية تجذيراً للمسمّى، وذكره، ولو همساً، فضيحة مدوّية. هنا يغدو المستور صنو المجهول والمجهول مرادفاً لغير الموجود، مرادفاً للصحّة والشفاء.
كان برج إيفل، وهو أبشع ما في باريس، جثماناً منتصباً في ليلٍ هائل وليلاً هائلاً على ماردٍ مُسجّى بالطول.
قال لي أدونيس مرّة، وكنّا نمشي في باريس: أجمل ما في هذه المدينة أنّ أرواح شعرائها تقوم وتلعنها.
من تلك اللحظة ومدينة هوغو وبودلير ورمبو وفرلين مقترنةً في بالي بهذه الصورة الرائعة.
■ ■ ■
■ يد
يتمادى التفكير وترفرف الخواطر كأنّها فراش وعصافير تنبجس طائرةً من رأس المرء.
تعلو الأفكار وتخترق حدود الشرود ثم تنحدر صوب الهاوية وتلامس شفاه الجحيم.
فجأةً يدٌ ما، يدُ مديرٍ ما، حَكَمٍ أو وسيط، تُمسك الأفكار وتُرجعها. ترجعها إلى الكرسي، إلى الشبّاك، إلى المائدة.
يحلّق المرء ويهوي، ويدٌ غير يده تنتشله من الغرق الطائر هنا ومن الغرق الغريق هناك.
■ ■ ■
■ أوان القلب
خلافاً لسائر أعضاء الجسم، يظلّ القلب شابّاً ما دام خارج الاستعمال. حين يغرق في العواطف يُرْهَق ويباشر خريفه.
كن قاسياً بارداً سطحيّاً أنانيّاً حقيراً ما طاب لك، تؤجّلْ هَرَمَك.
في الهَرَم لا مفرّ. تتضافرُ العناصر لتلقي بك تحت حوافر التأثّر. شيخوخة الأناني انتقام القلب منه. دموع الشيخ ثورة الجليد على نفسه.
تحتفظ بقلبك جبّاراً مدى طغيان وحش الجسد، وعندما يبدأ الجسد بالأفول يستيقظ القلب ويَشْرع في التمزّق.
■ ■ ■
■ البحّار العادل
أحد بحّارة الروّادة البرتغالي ماجلّان (القرن السادس عشر)، ويدعى جارابيجا، كان يرتعب من زوابع البحر، ولا سيّما عواصفه الثلجيّة. كان، حسب ما يورده فكتور هوغو في روايته «الرجل الذي يضحك» (1869)، كان يسمّي هذه العواصف «الجحافل الخارجة من الجهة الشرّيرة للشيطان».
الإنسانُ البسيط، البحّار المقيم بين مجهولٍ عائم ومجهول هائم، أرحبُ صدراً من الفيلسوف.
الفيلسوف يرى الشيطان واحداً، كائناً ملعوناً يستحوذ على الشرّ والشرّ يستحوذ على ممسوسيه.
البحّار البسيط قال: الشيطان مثلي، فيه شرّ وفيه خير.
خذِ الرحمةَ من قلوب المرعوبين.
■ ■ ■
■ جحود
لا أحد يُحبّ أستاذه أكثر من حدود الشكر. «مَن علّمني حرفاً صرتُ له عبداً» لكي أرتدّ عليه وأقتله. قبل سيادة مجتمع الاستهلاك كان هناك حياء في الجحود، وبعد هذه السيادة أصبح الجحود نوعاً من أنواع حقوق الإنسان.
■ ■ ■
■ نقطة تكفي
بات هناك وصفة جاهزة للكتابة: العقم مع النرجسيّة، في ظلال تواطؤ النقد أو غيابه.
ليس الأمر أفضل في الفنون التشكيليّة، ولا في المسرح والسينما. استنساخ، وأيّ شيءٍ كان.
الغناء لا يستحقّ التعليق، لقد سَبَق له أن عُلّق على مشجب الكليب وروتانا والتلفزيون، وكفى به ذلك دَفْناً.
ما يُعجِب المصفّقين بالمُصَفَّقِ له هو فراغه، ممّا يمنحهم ذريعة صناعة الفراغ بدورهم، فضلاً عن كونه يعفيهم من الشعور بالنقص.
وما قد يُعزّي قليلاً عمّال الفراغ أن الحال في أوروبا وأميركا والعوالم الأخرى، وعلى قَدْر ما نعرف، ليست في اللوج. قد لا تكون بتعاسة حالنا لكنّها ليست أفضل في الجوهر. الانحطاط أيضاً معولَم.
في خضمّ هذا الخواء الفوضوي المتأجّج يُعثر بين الفينة والأخرى على درّةٍ بين الوحول، على جوهرةٍ قرب المزابل. تُغيّم فتنحجب السماء، لكن النجوم لا تنطفئ. تنقرض أجناسٌ ويتبقّى آدم هنا ونوح هناك... نقطة واحدة تكفي لاسترجاع البحر.
■ ■ ■
■ مشنوقا طبرجا
في عهد الياس الهراوي، لإعطاء درس لم يتّعظ به أحد، شُنق محكومان في ساحة طبرجا.
منذ ذلك اليوم لم تعد صديقتي تمرّ من الساحة. لا قدماها تطاوعانها ولا سيّارتها ولا مخيّلتها.
في نظرها لا تزال الجثّتان معلّقتين في الهواء هناك. وفي نظرنا أيضاً.
احتلتا الساحة إلى الأبد.
بقي هيكلهما العظمي في الذاكرة يقهقه شماتة بالقانون. يقول للناس: «نحنُ قَتَلْنا فقتلونا، ولكنْ مَن يَقتل مَن يقتلونكم مِنْ بعدنا؟ مِن قَبلنا ومِن بعدنا؟
«ماذا انتفعتم من تعليقنا؟
«تثبيت وجود؟ وجود ماذا؟ هيبة القانون؟ قانون ماذا؟ قانون أين؟ قانونٌ على مَن؟
«نحن قَتَلْنا وقُتلنا، مَن يكمش قَتَلة الشهداء؟ مَن يكمش قَتَلة غير الشهداء؟ مَن يحبس الحراميّة الكبار؟ مَن يحاسب الذين يغتالون الشعب باللحم الفاسد والسمك الفاسد والجبنة الفاسدة والخبز الفاسد والدواء الفاسد والوزير الفاسد والنائب الفاسد والمدير الفاسد والموظّف الفاسد والشاهد الفاسد والصحافي الفاسد والمهندس الفاسد والمحامي الفاسد والطبيب الفاسد؟».
هكذا يتكلّم مشنوقا طبرجا.
فاسد بأمّه وأبيه هذا المجتمع المأفون، الغارق حتّى رفات أجداده في الاهتراء.
ضيعانكما يا مشنوقَي طبرجا!
أريد، حين أموت، أن تُحرق جثّتي وتُذرّى في الريح فلا يُهال عليها هذا التراب الفاسد.
أنا من تراب، ربّما، ولا أريد أن أعود إلى هذا التراب.
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد