روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية

11-02-2012

روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية

يثير الجدال حول علاقة الدين بالسياسة العديد من التساؤلات والإشكاليات، وخصوصاً في هذه المرحلة التي تشهد ثورات وتغيرات عاصفة في بعض البلدان العربية، أفضت إلى بروز قوى وأحزاب سياسية إسلامية في كل من تونس ومصر وليبيا والمغرب، ووصولها إلى سدة الحكم عبر صناديق الاقتراع.

ويمتد الجدل ليطاول العلاقة ما بين المجال الديني والمجال السياسي، بما يقتضي إعادة تعريف دور الدين ووظيفته الاجتماعية والثقافية والسياسية، والاستناد إلى مقتضيات عملية التطور التاريخي لمكونات المنظومة العقائدية التي تمس جملة المفاهيم الأساسية المتعلقة بالعلاقة مع الآخر والتعددية والتسامح والحرية وسواها من المفاهيم. وفي هذا المجال، يعتبر طه عبد الرحمن، في كتابه «روح الدين» (المركز الثقافي العربي، 2012)، أن الدين والسياسة عبارة عن علاقة وجودية بين عالمين متقابلين، وأن هذه العلاقة الوجودية تتخذ في الواحد منهما عكس الاتجاه الذي تتخذه في الآخر، فتكون في الدين عبارة عن تنزيل، يجعل العالم الغيبي مشاهداً في العالم المرئي، وتكون في السياسة عبارة عن تنزيه، يجعل العالم المرئي متوارياً في العالم الغيبي. بمعنى أنه يحصرها ما بين التشهيد والتغييب.

ويجري البناء على هاتين الوظيفتين للدين والسياسة، أي «التشهيد» و»التغييب»، للقول إن الدين والسياسة لا يشكلان مجالين مستقلين من مجالات الحياة الإنسانية، بل هما طريقان متقابلان للفاعلية الإنسانية، يتوصل بهما إلى تحقيق أغراض كل واحد من مجالات الحياة، تحقيقاً يأخذ في الاعتبار العلاقة بين العالمين، المرئي والغيبي؛ أو بالأحرى التعبدي والتسيدي. وذلك انطلاقاً من قناعة طه عبد الرحمن التي تنهض على اعتبار الإنسان يحيا في عالمين اثنين، أحدهما عالم مرئي يتواجد فيه الإنسان بجسمه وروحه؛ والثاني عالم غيبي يتواجد فيه بروحه؛ ولا تبرح أعمال الإنسان وأحواله جميعاً تتشكل بهذا الوجود المزدوج، ولو أن الأفراد يتفاوتون في قوة تحققهم به، وفي مدى ترجيحهم لأحد العالمين على الآخر، من دون أن تكون لهم أبداً القدرة على الانفكاك عن هذا الازدواج الوجودي.

ويدخل في الاعتبار - أيضاً - أن الدين يمثل أفضل طريقة، يدبّر بها الفاعل الديني تنزيل العالم الغيبي إلى رتبة العالم المرئي، آخذاً بأسباب التشهيد، فيما تمثل السياسة أفضل طريقة، يدبر بها الفاعل السياسي تصعيد العالم المرئي إلى رتبة العالم الغيبي، سالكاً سبيل التغييب.

ويجترح طه عبد الرحمن مسلمة يدعوها «تعدية الوجود الإنساني»، تقضي بأن الإنسان، مؤمناً كان أو غير مؤمن، متعديّ الوجود بطبعه، لذلك يوجد في العالم المرئي وفي العالم الغيبي في الوقت ذاته. ويستنتج منها أن الإنسان أمامه خياران وجوديان لا ثالث لهما، إما أن يقوم بتنزيل العالم الغيبي في العالم المرئي، ممارساً التشهيد، وإما أن يقوم بتصعيد العالم المرئي إلى العالم الغيبي، ممارساً التغييب. إضافة إلى أن التدين هو نتاج «الفطرة» التي تحدد طبيعة الروح، بحيث تكون الروح في الإنسان هي الأصل في التشهيد، في حين أن السياسة نتاج «النسبة» التي تحدد طبيعة النفس، بحيث تكون النفس في الإنسان هي الأصل في التغييب.

وعلى هذا الأساس النظري حول طبيعة الصلة القائمة بين العالم المرئي والعالم الغيبي، ينتقد عبد الرحمن كلاً من «الدعوى العلمانية» التي تقول، في شكل عام، بالتفريق بين العالمين المذكورين؛ والدعوى الأخرى، التي تقول، على وجه الإجمال، بالجمع بينهما؛ ويصطلح على تسميتها «الدعوى الديانية». وعليه، يجري الاعتراض على الدعوى العلمانية التي تشترط الفصل بين العمل الديني والعمل السياسي في نهوض الناس بوضع قوانينهم بأنفسهم لتدخل على الوجود الإنساني شتى ألوان التضييق، كونها تنبني على افتراضات باطلة، منها أن إرادة التدبير لا تتجلى إلا في القدرة على وضع القوانين، وأن إرادة الخالق تتعارض مع إرادة الإنسان؛ كما تنبني على اختلالات في فهم الصلة القائمة بين الله والإنسان، الأمر الذي أفضى إلى قصر وجود الإنسان على عوالم وهمية غير حقيقية، من خلال قطع الصلة بين العالمين، المرئي والغيبي، وقلب مقاصدهما. إضافة إلى أن الدعوى العلمانية تفترض عدم تدخل العمل الديني في الشأن العام، مقابل عدم تدخل العمل السياسي في الشأن الخاص، وبما يفضي إلى إضعاف انوجاد الإنسان بالعالم المرئي بقطع أسباب تواجده بالعالم الغيبي، جاعلة وجوده ضيقاً حرجاً.

في المقابل، فإن هناك الدعوى الديانية، التي تقول بالوصل بين الدين والسياسة، ويختلف أصحابها في كيفية الوصل وطبيعته، حيث يرى بعضهم دخول الدين في السياسة، وبعضهم الآخر دخول السياسة في الدين، وهناك القائلون بالتماثل بين الدين والسياسة، ومن يقول بتحكيم الدين، ومن يقول بتفقيه السياسة. وأخد معظم الحكام في البلدان العربية والإسلامية بمقولة دخول الدين في السياسة، وجعلوا الدين تابعاً لسياساتهم. في حين أن من أخذ بمبدأ تفقيه السياسة، استند إلى تصور صناعي للفقه، موروث عن الطور التدويني والعصر الصفوي، الذي يقوم على العناية بالجانب القانوني من الفقه، وإهمال الجانب الأخلاقي، فكان أن توسل الفقيه الولي في تدبيره بالوازع السلطاني بدل الوازع الروحاني. ويأخذ عبد الرحمن على الديانيين، بمجملهم، عدم اشتراطهم العمل التزكوي في إقامة أحكام الدين، ويقترح «الدعوى الائتمانية»، التي لا تفصل بين «التعبد» و»التدبير»، أي بين الدين والسياسة، فصل الدعوى العلمانية، وفي الوقت نفسه، لا تصل بينهما وصل الدعوى الديانية، وإنما تأخذ بالوحدة الأصلية، المتمثلة في الأمانة، التي تحمّلها الإنسان باختيار منه؛ حيث لا فصل ولا وصل بين التعبد والتدبير في الأمانة، كما أنه لا فصل ولا وصل بينهما في الاختيار.

عمر كوش

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...