في سورية الإجازة ترف في غير وقته
يتنهد سائق التاكسي قائلاً: «الله يهدي الأحوال»، ويضيف مشيراً إلى سهول حوران الممتدة على طول طريق الشام - عمان: «بالفعل بلدكم جنة على الأرض». تومئ نهلة برأسها من المقعد الخلفي، موافقة وتشد يديها حاضنة ابنها الذي غفا، وتعاود النظر إلى القرى المبعثرة على جانبي الطريق، متابعة أسماءها على لافتات كحلية رتيبة، وبينما لا يزال بعضها شامخاً، هوى بعضها الآخر في دلالة على ما قد حدث هناك!
«نوى»، «خبب»، «درعا»... تحفظ نهلة هذا الطريق عن ظهر قلب، فزوجها يعمل في عمان، وكثيراً ما تزوره مع ابنهما الصغير، ولكن من عادته أن يأتي هو في مثل هذا الوقت من السنة، في إجازته الصيفية التي يعود فيها إلى سورية، حيث يمضيان بعض الوقت في دمشق أو على الساحل. «الساحل السوري جميل جداً»، يقاطع سائق التاكسي الأردني الجنسية تأملات نهلة مجدداً، ويضيف بحماسة: «اعتدت القدوم مع زوجتي وأولادي كل سنة في الصيف الى هنا لقضاء أسبوعين في اللاذقية أو طرطوس... متنزهاتها جميلة وأسعارها معقولة... ولكن هذه السنة لم أتجرأ على القدوم!».
«عن أية سياحة يتحدث؟»، فكرت نهلة وقلبها يعتصر ألماً، مع أنها تعيش في دمشق الأكثر هدوءاً، والتي لا تزال تضج مطاعمها ومقاهيها بالناس ولكن بالهم أيضاً. في حضرة الموت كل شيء آخر يبدو رفاهية... لا مكان لها اليوم.
تتذكر كيف احتفلت بخجل الأسبوع الماضي بعيد ميلاد ابنها الذي أتم عامه الثامن. أي رغبة في الاحتفال والوطن موجوع؟ وأي استمتاع وعائلات سورية تفقد أبناءها؟ ضمت ابنها مجدداً إلى صدرها، والتفت بحسرة الى الوراء، خلال عبور السيارة الحدود.
حال نهلة كحال الكثير من الأسر السورية، وقد طغى ألم الأحداث على رغبتها بالاستمتاع بإجازة صيفية أو الاستراحة من العمل أو الدراسة، فالتصق الجميع بالشاشات يتابعون المستجدات لحظة بلحظة، وهو أيضاً حال غير السوريين الذين اعتادوا أن يُغرقوا المدن السورية السياحية بتواجدهم الكثيف، ولكنهم آثروا هذه السنة اختيار وجهة أخرى، بعيدة من أي أوضاع أمنية مزعجة.
تعكس الأحداث الوجهة في الداخل أيضاً، وبينما كان الدمشقيون يلوذون بالساحل أو قرى الجبل هرباً من حرّ الصيف، لجأت أسر كثيرة الى العاصمة الآمنة نسبياً. وما أن انتهت الامتحانات الدراسية حتى استضافت العديد من الأسر في دمشق أقربائها من المحافظات التي تعيش قلب الحدث وتتصاعد فيها وتيرة التظاهرات، كما تراجع عمل الكثير من المطاعم والمتنزهات والفنادق حتى في المصايف القريبة من العاصمة، بسبب قلّة الوافدين سواء من السوريين أم غير السوريين وأيضاً تأجلت الكثير من حفلات الأعراس، ووجد عمال تلك المطاعم والمتنزهات والفنادق أنفسهم بلا مصدر رزق، أو في «إجازة مفتوحة» على حد تعبير أحدهم: «أعطاني المدير إجازة مفتوحة بلا راتب ووعدني بأنه عندما تعود الأمور إلى طبيعتها سيتصل بي». يبتسم بسخرية قبل أن يضيف: «لم أناقشه، فأنا أرى بأم عيني حال مطعمنا الذي كان يضج بمئات الزوار يومياً، وقد أصبح شبه خالٍ معظم أيام الاسبوع، الناس كلها مشغولة بما يجري حولها والوقت ليس وقت مطاعم».
بدلت الأحداث والاحتجاجات الأخيرة المشهد في سورية، وأضافت بُعداً آخر للمدن وحتى للرموز السياحية سواء من خلال القنوات الإخبارية، أم حتى على صفحات «التويتر» و «الفايسبوك»، من نواعير حماه إلى مدرجات بصرى إلى أسماء الجوامع والساحات في غير مدينة سورية حيث سلّطت الظروف الجديدة ضوءاً مختلفاً على معالم كانت منسية، بل وأصبحت مشاهد التظاهرات مرتبطة بأسماء المناطق التي تستضيفها وجغرافية سورية ومدنها ومناطقها، أصبحت أكثر تداولاً من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب.
وبينما تعيش غالبية السوريين همّ الوطن يومياً، تنصرف قلة قليلة من الأسر الى «همّ» من نوع مختلف، فمنهم من ضجر من استمرار الأحداث لأنها نغصت عليه حال الاسترخاء التي اعتاد عليها، ومنهم من لا يهتم أصلاً بما يحصل، وكل ما يريده أن يتمكن من إنجاز مشاريعه الصيفية واللهو والاستمتاع، حتى ولو اضطر إلى تحصيلها خارج البلاد.
وبين وطن موجوع واقتصاد مهدد وسياحة رمادية، تعيش الأسر السورية اليوم قلقاً عميقاً مثقلاً بالألم يطغى على «كماليات» لا مكان لها في هذا السياق، مثل الســياحة والاستجمام. قلق عميق لكن يخترقه أمل شجاع بأن البلد لا بدّ سيعبر الأزمة.
بيسان البني
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد