الرعد ينتج «المادة المضادة» قرب سطح الأرض
«المادة المضادّة». بالإنكليزية «أنتي ماتر» Anti Matter. يسمي العلماء كل الأشياء الملموسة والمحسوسة والقابلة للقياس بأنها مادة. ينطبق ذلك على الخشب والهواء وشحنات الكهرباء وغيرها. بالاختصار، المادة هي الأشياء التي تؤلّف الكون، بداية بالذرّة ووصولاً إلى المجرات الكبرى. ماذا عن «مضاد المادة»؟ بتبسيط لا يخلو من الخطأ، إنها أشياء لها صفات نقيضة لكل ما نعرفه عن المادة بأنواعها كافة. والمقصود بالنقيض هو تمتع المادة المُضادة بخاصية أساسية مختلفة جذرياً عن نظيرتها في المادة. مثلاً، تتألف الذرّة من إلكترونات لها شحنة كهربائية سالبة، تدور حول نواة فيها نيوترونات خالية من الكهرباء، وبروتونات تحمل شحنات موجبة كهربائياً.
وتتألف ذرّة المادة المُضادة من مُكوّنات لها صفات مناقضة تماماً، كأن يكون «الإلكترون» (يُسمى «بوزيترون» Positron) له شحنة كهربائية موجبة!
كما أن البروتون المُضاد («أنتي- بروتون») الذي يشبهه في كل شيء ما عدا قطبية الشحنة، وهناك الـ «أنتي- نيوترون» الذي يشبه النيوترون في كل شيء، ما عدا طريقة دورانه. وباحتضار، كل جسيم مادي معروف في كوننا المنظور، يجد «مرآته» في جسيم يتناسب معه من المادة المُضادة.
ماذا يحدث عند لقاء ذرّة من المادة مع ذرة من «مُضاد المادة»؟ يفترض أن يتصادم الطرفان في انفجار يؤدي إلى إلغائهما وزوالهما معاً! ويترافق الانفجار مع صدور طاقة وحزم من أشعة «غاما» أيضاً. ولوقت قريب، ظنّ العلماء أن المادة المُضادة ربما توجد في أكوان أخرى، وأن توليدها في مختبرات الفيزياء النووية، يتطلب جهوداً ضخمة وآلات مُعقّدة، مثل حال «مُصادم هادرون الكبير» Large Hadron Collider.
ولكن، فريقاً من علماء الفضاء في أميركا لهم رأي آخر، إذ توصّلوا إلى أن المادة المُضادة موجودة، الآن وهنا، فوق رؤسنا تماماً، بالأحرى قرب السحب المطيرة، التي تسير في أولى طبقات الغلاف الجوي!
سجّل تلسكوب الفضاء «فيرمي» Fermi الذي تديره «الوكالة الأميركية للفضاء والطيران» (ناسا) والمصمّم لالتقاط انبثاقات موجات أشعة «غاما» الفضائية، ظاهرة غير مألوفة في الغلاف الجوي للأرض. ولم يكن العلماء لاحظوا هذه الظاهرة، على رغم قربها منهم، ما أثار إحساساً عارماً بالدهشة في أوساطهم. فقد رصد «فيرمي» حزماً من المادة المُضادة تتشكّل داخل العواصف الرعدية، مترافقة مع وميض أشعة «غاما» الصادرة عن البرق.
والمعلوم أن «غاما» أشعة نووية تصدر من المواد المُشعة مثل اليورانيوم، أو من الانفجارات الذريّة. ويرصد العلماء حدوث قرابة 500 وميض يومياً لأشعة «غاما» في الغلاف الجوي، لكنها تمرّ غالباً من دون أن تُلاحظ.
وفي اجتماع لـ «الجمعية الفلكية الأميركية» American Astronomical Society في مدينة سياتل، أوضح مايكل بريغز، عضو الفريق المشرف على تلسكوب «فيرمي» الفضائي، أن بعض هذه الومضات من أشعة غاما تعطي دلالات أكيدة على أن العواصف الرعدية تنتج حزماً من المادة المُضادة.
ويحتوي كل جسيم مُفرد من طاقة «غاما» («فوتون» غاما) على 511 كيلوإلكترون-فولت، وهي تساوي الطاقة الكامنة في كتلة مشابهة من الإلكترونات أو البوزترونات، ما يؤكّد أن تصادم الندّين العدوّين (المادة والمادة المُضادة) يؤدي إلى تلاشيهما، مع حدوث تدفق كبير من أشعة «غاما».
وفي مختبرات الفيزياء الذرية، من المُستطاع توليد جسيم البوزترون (وهو مُضاد الإلكترون) بتوجيه دفق من أشعة «غاما» تفوق طاقته 1022 كيلوإلكترون- فولت نحو نواة إحدى الذرّات الثقيلة، بحيث يؤدّي كبح هذه الأشعة إلى تلاشيها، مع ولادة فورية للجسيمين المتعاكسين: الإلكترون والبوزترون.
وشكك العلماء طويلاً في أن انبثاقات أشعة «غاما» الأرضية تصدر عن الحقول الكهربائية الشديدة في أعالي العواصف الرعدية. ففي مثل هذه الظروف، يصبح الحقل الكهربائي كبيراً بما فيه الكفاية، بحيث يؤدي إلى انهيار الذرّات وانفلات مجموعات من الإلكترونات المتحرّكة. وتزيد سرعة هذه الإلكترونات بفضل الحقل الكهربائي القوي، فتصل إلى ما يقارب سرعة الضوء. وعندها، تتولّد أشعة «غاما»، من النوع الذي لاحظه تلسكوب الفضاء «فيرمي»، على هيئة انبثاقات أرضية. لكن اصطدام بعض من هذه الإشعاعات (التي تتمتع بطاقة محدودة) بجزيئات الهواء يضع حداً نهائياً لها، كما ينقل طاقتها إلى «زوج» من الجسمين المتضادين» الإلكترون والبوزترون. وتصل هذه الجسيمات إلى مدار «فيرمي»، بعد أن تنزلق على خطوط الحقل المغناطيسي الأرضي.
لقد صُمّم تلسكوب الفضاء «فيرمي» للتعامل مع أشعة «غاما» التي تعتبر أيضاً أعنف أشكال الأشعة الضوئية وأعلاها طاقة على الإطلاق. وعلى رغم أن وظيفة «فيرمي» المرسومة هي اكتشاف الكوارث النجمية في الكون، التي تعلن عن نفسها بتدفقات قوية من أشعة «غاما»، تعتبر التدفّقات الصادرة عن انفجار نجم ضخم من نوع يسميه العلماء «سوبرنوفا» Super Nova، نموذجاً عن التدفّقات التي يرصدها «فيرمي». وبصورة دؤوبة، يمسح هذا التلسكوب الفضائي القبة السماوية آلاف المرات يومياً، للبحث عن إشارات مفيدة في هذا المجال. وفي بعض الأحيان، يوجّه «فيرمي» عدساته باتجاه الأرض. ومع تكرار المحاولات، استطاع «فيرمي» اكتشاف ظاهرة تكوّن المادة المضادة في الغلاف الجوي للأرض، بشكل غير متوقع. ومنذ إطلاقه عام 2008، التقط «فيرمي» في جو الأرض 130 حالة انبثاق لأشعة «غاما» المحدودة الطاقة التي تنتج من اضمحلال الإلكترون المُضاد (البوزترون) إلى إشعاع إثر التقائه بـ «نقيضه» الإلكترون.
وعلى رغم أن «فيرمي» لم يتجاوز عامه الثالث في الفضاء، فقد أثبت أنه أداة ناجحة في مراقبة انبثاقات أشعة «غاما» في هذا الكون الفسيح، إضافة إلى المفاجأة التي أحدثها باكتشاف عمليات غامضة تحدث في كوكبنا الأم قريباً جداً من ميادين حياتنا، بحسب إيلانا هاروس من الفريق العلمي المشرف على «فيرمي» في المقر الرئيسي لـ «ناسا» في واشنطن.
وفي معظم حالات التقاط انبثاقات من أشعة «غاما» قرب الأرض، كانت هذه المركبة فوق منطقة العواصف الرعدية تماماً. لكن في حالات كثيرة أخرى، لا تكون «عين» التلسكوب «فيرمي» موجهة مباشرة باتجاه العاصفة، فتفلت من مراقبته.
وقد حدثت إحدى هذه الانبثاقات في 14 كانون أول (ديسمبر) 2009، عندما كان التلسكوب «فيرمي» فوق مصر، ولكن قلب العاصفة كان في زامبيا على بعد حوالى 4500 كلم إلى الجنوب. وبقول آخر، كان موقع العاصفة الرعدية خارج أفق الرصد بالنسبة إلى «فيرمي»، فلم يتمكن من التقاط أشعة «غاما» التي تدفّقت حينها، بشكل مباشر. وعلى رغم أن العاصفة كانت خارج أفق الرؤية المباشرة، كان «فيرمي» على اتصال مغناطيسي بالحدث. وشرح جوزف دوير من «معهد فلوريدا التكنولوجي» في ملبورن، هذا الأمر قائلاً: «تؤدي عمليات انبثاق أشعة غاما قرب الأرض، إلى إنتاج إلكترونات وبوزترونات عالية السرعة، تتسلق خطوط الحقل المغناطيسي الأرضي. ويصل بعضها إلى تلسكوب الفضاء فيرمي بعد بضعة أجزاء من الثانية من لحظة انبثاقها. وحين تضرب البوزترونات أجهزة فيرمي، فإنها تتزاوج فوراً مع الإلكترونات لتنعدم معها، مع صدور حزم من أشعة غاما، ما يضعها في مرمى الرؤية بالنسبة للتلسكوب فيرمي».
وعلّق ستيفن كامر، وهو اختصاصي في الفيزياء الكونية من جامعة «ديوك»، على النتائج التي جاء بها التلسكوب «فيرمي»، مُشـيراً إلى أنها تقرّب العلماء خطوة إضافية نحو فهم عملية انبثاق أشعة «غاما» على الأرض. وأضاف كامر أن العلماء يحتاجون إلى مزيد من الوقت لاكتشاف مواصفات أشعة «غاما» التي تنجم من العواصف الرعدية، إضافة إلى التوصّل إلى فهم دقيق للدور الذي يؤديه البرق في هذا المجال.
أحمد شعلان
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد