التضخُّم الحقيقة الضائعة بين الأرقام والواقع
غالباً ما تبشِّرنا الأرقام الرسمية بانخفاضٍ في معدلات التضخم، ودائماً لا ينصت المواطن كثيراً إلى هذه الأرقام، وأسبابه في ذلك كثيرة؛ فلايوجد تغيُّر طرأ على جيوبه، ولا تغيّر على حال الأسواق، والتغيُّر الوحيد هو الرقم الرسمي الذي يؤكِّد الانخفاض، ليوحي بأنَّ واقع التضخُّم لدينا أفضل من دولٍ كثيرة توصف بالمتقدِّمة. وبنظرةٍ إلى واقع الحال، نجد أنَّ جيوب المواطن في وادٍ والأرقام الرسمية في وادٍ آخر، وواقع حال الأسواق في وادٍ ثالث؛
فالأرقام التي تصدر بين الفينة والأخرى لا نجدها إلا مؤكِّدةً على انخفاضاتٍ متتالية للتضخم، مع العلم بأنَّه لا إجراءات كبيرة تُنفَّذ على أرض الواقع، باستثناء السياسة النقدية واستقرار سعر صرف الليرة الذي له دور كبير في ضبط حالة التضخُّم.
¶ معاينة عن قرب
مناسبة الحديث عن التضخُّم هي إصدار مصرف سورية المركزي إحصاءاتٍ جديدة، والذي يعدُّ من أبرز الجهات التي تعاين واقع التضخم عن قرب، بعد المكتب المركزي للإحصاء، والجدل يعود إلى الظهور حين يعلن المركزي انخفاض رقم التضخم بمعدل 1 % في شهر تموز عن شهر حزيران، مع العلم بأنَّ صيف المواطن هذا العام كان أكثر حرارةً من حرارة الجو، وجيوب المواطن في هذه الفترة ضربت أرقاماً قياسية في سرعة فراغها؛ فعادةً يبدأ ذوو الدخل المحدود بالاستدانة في العاشر من كلّ شهر، ولكن توقيت الاستدانة كان مبكِّراً في هذه الأشهر.
¶ المصرف قال كلمته
ولكن، تبقى الأرقام الرسمية هي سيدة الموقف؛ حيث تؤكِّد أنه خلال الأشهر الستة الأولى من العام 2010 سجَّل معدل التضخم 4.16 %، منخفضاً عن نفس الفترة في العام 2009؛ حيث سجَّل معدل التضخم 4.48 %.
مصرف سورية المركزي لفت الأنظار إليه منذ بدأ إصدار تقارير دورية حول واقع التضخم، وهذا ما أشار إليه معظم الخبراء والمعنيين، واعتبروا أنَّ هذا أمر إيجابي يحسب للمصرف، حيث يقول الدكتور أيهم أسد «خبير اقتصادي»: «بغضِّ النظر عن آلية الحساب التي تمَّ من خلالها الوصول إلى أرقام التضخُّم أو سنوات الأساس التي تمَّ الاعتماد عليها، فالشيء الذي يلفت الانتباه هو إصدار السلطة النقدية تقارير تتعلَّق بالتضخم والرقم القياسي لأسعار المستهلك، والذي يضع بين يدي الباحثين والخبراء معلومات وإحصاءات يمكن الاعتماد عليها»..
¶ كرة الثلج
إلا أنَّ الإيجابية في طرح الأرقام والبيانات لا تُخفي وراءها الكثير من النقاش حول صحة الأرقام أو اختلافها، وهنا يورد لنا الدكتور مدين علي (خبير اقتصادي) مثلاً، وهو أنَّ «المي تكذّب الغطاس»، ليضيف أنَّ واقع السوق يختلف مع الأرقام، حيث يقول: «قناعتي الشخصية أنَّ معدل التضخم أعلى بكثيرٍ من الأرقام الواردة، وفي مثل هذه الحالة لا نحتكم ولا نستسلم للغة الأرقام، وإنما نحتكم إلى واقع السوق، فهو العاكس الحقيقي للمستوى العام للأسعار، وبالتالي التضخم.. فما نلحظه اليوم هو ارتفاع في أسعار جميع المواد، خاصةً الاستهلاكية، مع العلم بأنَّ هناك العديد من السلع مرتفعة الثمن، رغم أننا الآن في موسم الخضار والفواكه، ويجب أن يكون سعرها أقل مما هو عليه، وبالتالي فمعدل التضخم أكبر مما هو مطروح».. وإذا تساءلنا عن أسباب هذا الارتفاع، فيشير علي إلى أنَّ هناك عدة أسباب تتمثَّل في فوضى السوق؛ بمعنى أنَّ قوانين العرض والطلب لا تفعل فعلها، وهي تفرض بشكل عشوائي بحسب ما يريده التجار؛ أي أنَّ السوق لدينا- ونتيجة غياب الجهات الرقابية- ليست حقيقية وغير محكومة بقواعد العرض والطلب، وإذا أردنا الحديث عن التضخم في هذا الوقت من العام فنحن نمرُّ في مرحلة مهمة، وهي موسم المدارس والمؤونة والدخول في فصل الشتاء، وهذا يسهم في ارتفاع الأسعار إلى حدٍّ كبير.. ومن حيث السياسة النقدية، فهناك أيضاً عوامل مؤثِّرة- بحسب ما يشير علي- الذي يقول: «هناك زيادة في حجم الكتلة النقدية المعروضة في السوق، ما أدَّى إلى اختلال التوازن بين النقد والسلع، فالتوسّع في حجم الائتمان؛ أي زيادة الإقراض، ستؤدِّي إلى زيادة في المستوى العام للأسعار لأغراض متعددة، وهذه الكتلة ستُحوَّل إلى كرة ثلج وستؤدِّي إلى ارتفاع الأسعار»..
نجاح نقدي
عند الحديث عن انخفاض في معدلات التضخم، فالأسباب تتقاسمها عوامل داخلية وخارجية، فانخفاض المواد المستوردة والداخلة في الصناعات كان لها تأثيرها، وأيضاً للسياسة النقدية دورها في هذا الأمر، فيقول الدكتور نبيل سكر (خبير اقتصادي): «السياسة النقدية الحالية جيدة وتلعب الدور المطلوب منها، رغم أنها عملياً لا تمتلك الكثير من الأدوات، إلا سعر الفائدة، ولكن هناك تعويلاً لزيادة دورها عندما سيبدأ العمل بسندات الخزينة التي بدأنا نسمع عن قرب العمل بها»..
¶ فوائد الانكماش
يبدو أنَّ مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد، فإن كان رقم التضخم في العام 2009 انخفض إلى 3 %، فمن المتوقع أن يكون هذا العام بين 3 إلى 4 %- كما يرى سكر- فالمساعد الأساسي في انخفاض التضخم هو الانكماش الاقتصادي العالمي وانخفاض حركة الاقتصاد العالمي، فانخفاض الإنفاق سيؤدِّي إلى انخفاض في الإنتاج العالمي، وهذا سيؤثِّر فينا بشكل إيجابي من جهة؛ حيث ستنخفض أسعار السلع المستوردة، وله تأثير سلبي من جهة أخرى كوننا لن نصدر بنفس الطريقة التي كنا نصدر بها.. ومن ناحيةٍ ثانية، يشير سكر إلى تغيُّر عادات الاستهلاك، وهذا يؤثِّر بشكل كبير في معدلات التضخم، ورغم أنَّ الاستهلاك سيؤدِّي إلى زيادة ونشاط في الطلب، ولكنه مضرٌّ من ناحية أخرى، فحين يزيد على حدوده الطبيعية سيكون الاستهلاك على حساب الاستثمار. الرقم الذي تطرحه الجهات المعنية يعاني الكثير من القصور، والسبب يكمن في طريقة القياس، كما يشير الدكتور أسامة سعيد (خبير اقتصادي) الذي يقول: «لدينا مشكلة أساسية في القياس الذي لا تدخل فيه كل السلع والخدمات والمدن بشكلٍ سليم، فهناك مقاييس تُعتمد عالمياً تدخل فيها كل السلع المتعلّقة بحياة المواطن، وتأخذ في الاعتبار المدن المختلفة، فمع تغير أنماط الاستهلاك اختلفت سلة المستهلك وتغيَّرت تكاليف إنفاق الأسر، فلا بدَّ من اعتماد مقياس يأخذ في الاعتبار متوسط إنفاق الأسرة على الكثير من السلع الخدمية، كالصحة والتعليم والاتصالات، التي تلتهم جزءاً كبيراً من دخل المواطن، فهناك ما يزيد على عشرة ملايين مشترك في الاتصالات الخليوية، وهذا لا يدخل في حساب مؤشرات التضخم، إضافةً إلى ضرورة أن يغطِّي المقياس أوسع عدد ممكن من المدن.
عوامل عديدة
أما حول العوامل الأخرى التي تدخل في حساب التضخم، فهناك عوامل داخلية وخارجية، فانخفاض أو ارتفاع أسعار السلع المستوردة يؤثِّر في معدل التضخم، والنمو كلما ارتفع زاد معه التضخم، وأيضاً معدل تأمين القروض؛ فكلما زادت الكتلة النقدية زادت الأسعار.. ويتساءل في هذا المكان (سعيد): كيف تراجع التضخم في الوقت الذي تضاعفت فيه القروض الاستهلاكية؟.. مشيراً إلى أنَّ تأثير السياسات النقدية على التضخم كان محدوداً، ومن أهم العوامل المساعدة على ارتفاع معدل التضخم هو الصيغة الاحتكارية التي من المفترض أنها ألغيت في القوانين وعلى الورق، ولكنها ما زالت قائمة أيضاً، ففعالية حماية المستهلك تؤثِّر في معدل التضخم؛ فإذا كانت كل هذه العوامل متوافرة بإيجابية، فهي ستؤثِّر في انخفاض التضخم، إضافة إلى العوامل الخارجية، كالانخفاض العالمي للأسعار. وفي نفس الوقت يؤكِّد سعيد أنه لا يمكننا الحكم والقول، إنَّ هذا الرقم صحيح أو خاطئ، ولكن نحن نحاول تحليل بعض المعطيات.
مساهمة إيجابية
وبالعودة إلى تقرير مصرف سورية المركزي، فقد أكَّد على انخفاض في الرقم القياسي لأسعار المستهلك خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي، حيث بلغ 3.87 % مقارنةً بـ4.19 % خلال الفترة نفسها من العام الماضي. وأوضح المصرف أنَّ معدل التضخم السنوي وصل إلى 2.18 % خلال شهر تموز، منخفضاً بما يقارب 1 % عن شهر حزيران الماضي؛ حيث بلغ 3.18 %. وأتى تفسير المصرف لمعدل التضخم بالاعتماد على المساهمة النسبية لمكونات سلة المستهلك، حيث بيّن المصرف أنَّ أغلب مكونات السلة أسهمت بشكلٍ موجب في معدل التضخم المسجَّل في شهر تموز، ولكنها مساهمات ضعيفة ومتفاوتة، ومن أهم المساهمين في رقم التضخم من مكونات السلة هو مكوِّن كل من الملابس والأحذية والمعالجة والأدوية والسكن والوقود والإضاءة التي أسهمت بما يقارب 38 % تقريباً لكلٍّ منها، وهنا يعلِّق (أسد) حول أبرز ما يحمله التقرير من تطورات تستحقُّ الوقوف عندها، وهو الحديث عن أنَّ هناك مساهمة إيجابية؛ أي «أنها أسهمت في رفع رقم التضخم» لكل من الملابس والأحذية والمعالجة والأدوية والسكن والوقود والإضاءة، وهنا نتوقَّف قليلاَ كون هذه المكونات أساسية بالنسبة إلى المستهلك؛ أي أنَّ أسعار حاجاته الرئيسة ما زالت مرتفعة وتسهم في رفع معدل التضخم. وهنا نتساءل عن الإجراءات التي يجب أن تُتَّخذ لتثبيط مساهمة هذه المكونات لتكون مخفضة لمعدلات التضخم؟.
¶ تحول عن دور المثبط
يورد التقرير أنَّ مكون الإيجار الذي يعدُّ أحد عناصر مكوّن السكن والوقود والإضاءة، ارتفع الرقم القياسي له في شهر تموز 2010 بمقدار 1.87 %، وبنسبة مساهمة بلغت 0.28 نقطة مئوية، متراجعاً عن دوره المثبط للتضخم في الفترة الماضية عن العام 2010، وهنا يطرح (أسد) التساؤل حول ما يعنيه أن يتراجع مكون السكن عن دوره المثبط لمعدل التضخم الذي كان عليه في العام 2009، ليكون الآن مساهماً في رفع هذا المعدل، وهو أيضاً من المكونات الأساسية بالنسبة إلى المواطن.
¶ الخير في الكماليات
في المقابل، سجَّل الرقم القياسي لأسعار مكون الترويج والثقافة نمواً سلبياً في حزيران 2010، بلغ ما يقارب 2.76 %، وبنسبة مساهمة وصلت إلى - 0.05 نقطة مئوية.. وكذلك مكون الاتصالات الذي انخفض الرقم القياسي فيه – 0.76 %، وبنسبة مساهمة قدرها – 0.02 نقطة مئوية. وبالتالي تعدُّ المساهمة السالبة لأسعار هذين المكونين في معدل التضخم هي المثبط الرئيس لنمو معدل التضخم، إضافةً إلى تراجع مساهمة أسعار بعض المكونات الموجبة في نمو معدل التضخم، يأتي في مقدمتها أسعار مكون الأغذية والمشروبات غير الكحولية.. وبالتأمُّل في هذه الأرقام، نجد أنَّ هذه المكونات هي التي سحبت معدل التضخم إلى الأسفل، كما يقول أسد، الذي يشير إلى أنَّ المساهمة الإيجابية في معدل التضخم للعديد من المكونات الأساسية في حياة المواطن يقابلها مساهمة سلبية أسهمت في خفض معدل التضخم لمكونات جانبية بالنسبة إلى المواطن، وهي الترويج والثقافة والاتصالات.
إباء منذر
المصدر: بلدنا
إضافة تعليق جديد