رمضان ورسالته الحضارية: ثمانية مواقع للنظر في الموضوع

21-08-2010

رمضان ورسالته الحضارية: ثمانية مواقع للنظر في الموضوع

من نافلة القول إنّ للصيام مكانة عظيمة في صرح الإسلام شأنه في ذلك شأن العبادات والواجبات والأركان الأخرى. وعلى المسلم أن يتفقه في الدين تفقهاً واسعاً ليتعرّف إلى هذه المكانة السامية للصيام، كي يستطيع بعد هذا أن يعبد الله حق عبادته، وقد قيل في هذا: نوم العالم خير من عبادة الجاهل.

من هنا نرى لزاماً أن نعرض حقائق حضارية من الصيام لتكون واضحة جلية:

1 - العناية بالإنسان ككائن أساسي في تكوين الحضارة

إنّ للصيام دوراً جلياً وأثراً كبيراً في العملية الحضارية الكبرى، وهذا يتمثل في أنّ الإنسان من العناصر الأساسية في تكوين الحضارة، وهذا يدل لا محالة على أنّ الحياة العامة لا تستقيم أحوالها ولا تصفو أجواؤها إذا كان قطبها (الإنسان) فاسداً أو عاجزاً عن القيام بشتى الوظائف والواجبات الحضارية المطلوبة. لذا يعنى الإسلام أشد العناية بهذا الكائن. فهو يرشده ويوجهه نحو أقوم سبيل وأفضل صراط واضعاً أمامه معالم الحضارة الحقيقية.

وفي هذا الإطار يجيء الصيام ليضرب على هذا الوتر الحساس بغية أن ينشئ إنساناً جديداً يقدر على تحمل الصعاب، وتجشم المشاق، وتخطي المراحل المتّبعة في درب التحضر والرقي والتقدم الحقيقي.

2 - الخروج من دائرة الذات إلى دائرة المجتمع المتكافل

ومـــن إيحاءات الصــــوم أنّه يدرب الأمة الإسلامية جمعـــــاء على خلقيــــة المجــاهدة الذاتية، فلا يتصـــور أن تكون نهضــــــة كبيرة ورقـــــي صحيح إذا كانـــت البنيـــة النفسية للأمــــة الإسلامية مشوّهـــة هشّة، ضعيفة الأسس، متضعضعة الأركان.

ومن المدهش أن يتخيّل كثير منّا أن الصيام لا يتجاوز دائرة الفرد ليشمل دائرة المجتمع لذا نراهم في شهر رمضان يجوعون ليأكلوا، ويعطشون ليشربوا. أما أن يكسبهم صيامهم هذا شعوراً اجتماعياً فلا. أي أن كلاً من هؤلاء لا همّ له إلا الانشغـــال بشؤون الذات وحاجاتها. دون الالتفات إلى الفئات الاجتماعية الأخرى المحتاجة، وما أكثرها في هذا العصر. فكيف يليق بنا في شهر رمضان وغيره أن نهمل شأن الفئات الاجتماعية الكثيرة التي أقعدتها أسباب وعلل كثيرة عن الكسب والعمل؟

3 - طريق الأخلاق الحسنة والآداب الفاضلة

وللصوم دور حضاري جليل يغفل عنه المسلمون، هذا الدور هو بث دعوة الإسلام من طريق الأخلاق الحسنة والآداب الفاضلة.

ولا بأس أن نذكر فقرة من الحديث القدسي الشهير، ونصها: «فإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سبّه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم إني صائم..» يتضح لنا من هذه الفقرة أنّ صيام الصائم لا يكون كذلك إلا بعد أن تتحقق عملية تمثل الأخلاق الفاضلة تحققاً كاملاً. أما أن يصوم البطن وتفطر الجوارح على الرذائل والفواحش والسلوك المنحرف فهذا ما يرفضه منطق الإسلام ومنهجه التربوي القويم.

4 - العناية القصوى بالشباب

ومن مقاصد الصوم الحضارية مدى العناية القصوى بالطاقات البشرية الحيوية التي تتمثل في فئات الشباب.

فمن نظر بعمق وتمعن إلى أحوال أمتنا - ناهيك عن الأمم الأجنبية - علم أنّ الفساد ضرب قلبها وشرايينها، وليس قلبها وشرايينها إلا شبابها الذي انحطت أخلاقه وأفلست شخصيته وتضعضعت معنوياته وقيمه.

ولا داعي لأن نذكر أمثلة عن الفوضى التي عمّت حياتنا، إذ يكفي أن ندرس جوانبها ومجالاتها لنلمس خطورة الفوضى وفداحتها. بل يكفي أن ننزل إلى الشوارع ونلج المدارس والإدارات والمصانع لنعود إلى منازلنا مندهشين مذعورين مما رأينا من فوضى واضطراب واعوجاج.

من هنا، فإنّ النهضة الحقة للأمة لا تكون إلا بالعناية القصوى بشبابها من كل الجوانب وشتى النواحي، ونحمد الله تعالى على أننا نمتلك منهجاً إسلامياً متكاملاً يفي بالحاجات التربوية والمطالب التكوينية اللازمة.

وللصيام دور جلي في تحصين شباب الأمة الإسلامية وحمايته وحفظه من شتى المفاسد وكل تأثيرات المناهج الجاهلية. ويتمثل هذا الدور في قمع الشهوات وكبح جماح الغرائز، بغية توجيه القوى والطاقات الحيوية نحو مجالات الخير وميادين الصلاح.

5 - حفظ الأمانات وأداؤها أداء حقيقياً

وللصوم دور حضاري كبير آخر، ألا وهو حمل أمـــة الإسلام على حفظ الأمانات وأدائها أداء حقيقياً. فمن المعلوم أنّ الصوم ذاته أمانة دينية، لا تقـــل شأناً عن أمانات الإسلام الأخرى. ولذا فالتقي يـــؤدي هــــذه الأمانة الربانيـــة، لينجو يوم القيامة من الحساب العسير الذي لا يرحم مضيعي الأمانات.

بل إنّ الإسلام كله - بواجباته وقيمه - أمانة عظمى قد أمرنا ربنا بحسن أدائها وضرورة رعايتها، قال الله تعالى: «إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً» (الأحزاب / 72).

وبديهي أنّ المسلم العاقل يتدرب في جو صيامه على خلفية حفظ أمانات الدين وأمانات الناس معاً. وهذا الحكم ينطبق كذلك على الأمة بأسرها، فأمامها أمانات كثيرة لا تكاد تحصى: الفقراء والمساكين، الأرامل، البناء الاجتماعي، محاربة الفساد، نشر الدعوة الإسلامية، الدفاع عن الأوطان الإسلامية...

6 - التحذير من الإسراف والتبذير

إنّ الشرع الإسلامي الحكيم - عموماً - يحذّر من التبذير والإسراف لما في هذا من مساوئ وأضرار وسلبيات لا تعدّ ولا تحصى. والصائم الحقيقي يتعلم من صيامه كيفية استغلال ما يمتلك، لأنّه يتدرب على الأكل القليل والضروري فلا تبذير ولا إسراف.

ومما نعجب له في وقتنا الراهن أن نجد علة الإسراف والتبذير قد عمّت الأسر والجماعات والمجتمعات ونرى أكواماً من الخبز والغذاء تشوه شوارعنا وحدائقنا وأحياءنا. كما نرى تبذيراً للمواد والأدوات ووسائل العمل في كل مؤسسة نزورها. هذا يتنافى - بطبيعة الحال - مع مقاصد الصيام تنافياً تاماً.

7 - تولّد عادة الاقتصاد في كل شيء

لذلك فإن صيام التقي يتولّد عنه - بصورة طبيعية - عادة الاقتصاد في كل شيء: الاقتصاد في الطعام والشراب، اقتصاد في العمل (فلا يميل المرء إلى أعمال هامشية لا طائل تحتها)، اقتصاد في الحركة والنشاط (أي صرف الجهود في المجالات الحيوية لا مجالات الترفيه) واقتصاد في الوقت أو الزمن، وفي ما يتعلق بمسألة الوقت، نجد في مدرسة الصوم درساً جليلاً ينفع الصائم في تنظيم وقته واستغلال أيامه في كل ما يخدم مستقبله. (فلا يعقل أن يصرف التقي الصائم أكثر أوقاته في الأمور التافهة بل لا يعقل أن يصرف في عمل أكثر مما يستحق من زمن).

8 - رسالة الإسلام و النظام

ومــــن الدروس التــــي تقدمها مدرسة الصيام درس قـــد نجيد فهمه على المستوى النظري فقط، ألا وهــــو درس النظام. فمــــن المعلوم أنّ رسالة الإسلام بعامة توصي دوماً بأن يلتزم العقلاء قواعد النظام في كل شؤون حياتهم. وأنّ هذا الالتزام أحد مستلزمات النظام الإسلامي وأحد نتائجه وامتداداته.

ولا يستأثر الصيام وحده بهذا الدرس، بل إنّ قواعد الإسلام وفرائضه وواجباته تتعاون في هذا المضمار فتحمل المسلمين حملاً لازماً على تنظيم حياتهم وتسيير شؤونهم وقضاياهم وحاجاتهم تسييراً حسناً، فيه من الدقة الشيء الكثير.

فالحفاظ على الصلوات الخمس ينجم عنه في شكل حتمي تعوّد المسلم التقي ترتيب حياته اليومية ترتيباً لا يسمح بإضاعة أي من واجباته أو أعماله وقضاياه.

والقيام بمناسك الحج قياماً صحيحاً (مع مراعاة ترتيبها) يفرض على المسلمين - على المستوى الشعوري والنفسي - أن يدركوا أهمية النظام ولزومه وكونه ضرورياً في مجال السير الحضاري والرقي الشامل.

وهكذا يتبيّن لنا أنّ الإسلام - في كل جوانبه وأبعاده - يغرس في نفوس المسلمين العقلاء روح النظام وطبيعة الانضباط وعادة ضبط الأشياء والقضايا والحاجات المختلفة. ومن هذا المنظور، نجد الصيام يعمل - بوسائله الخاصة - على تربية الناس الفطنين تربية متكاملة، تعتمد - في جملة ما تعتمد - قواعد النظام.

أنيس الأبيض

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...