مصر في «القرون الوسطى» الحديثة
طرقات معتمة وحياة على أضواء الشموع وأيام عطش في البيوت والمطاعم... وأخيراً مذابح في الشوارع. هذه ليست أخبار مصر في الأيام الأولى من تشرين الأول ١٩٧٣، حين كان البلد كلّه «على خط النار»، والنوافذ زرقاء، والسلع التموينية شحيحة، كل الإمكانات كانت موجّهة نحو المجهود الحربي.
الآن بعد سنوات الاستراحة الطويلة، عادت مصر الى عصر ما قبل السلام… ولم يعد غريباًَ انقطاع الكهرباء عن شوارع رئيسية في قلب العاصمة، وبالطبع يمكن أن تنتظر المدن والضواحي الماء والكهرباء أياماً طويلة، بينما يُشغل المسؤولون في رسم خريطة تتبادل فيها الأحياء والمدن الحياة في الظلام.
يضاف الى انقطاع الكهرباء والماء، ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وفي مقدمتها الخبز، الذي عادت طوابيره ومعاركه، وسُجل سقوط أوّل شهيدة خبز في ٢٠١٠ منذ أيام.
هل جفت مياه النيل؟ سؤال لا يظهر في ثناياه الفرق بين السخرية والواقع. فالسؤال يكشف عن غموض حالة الخدمات الأساسية التي ظهر انهيارها فجأةً، كأنها عملية سرية، أو مؤامرة لم يعلَن عن صاحبها.
إنها مؤامرة يديرها في الخفاء مستورد شموع، نكتة تمر تحت أضواء رومانسية إجبارية يعيشها المصريون، الذين ارتاحوا من العبث التلفزيوني في رمضان، لكنها بالنسبة إلى مرضى في المستشفيات إنذار خطر بالموت، وبالنسبة إلى المحالّ الكبرى خسارة بلغت حسب تقدير أوّلي في يوم واحد ٣٠ مليون جنيه (٦ ملايين دولار).
هل تفكر الدولة في مصر؟ بالطبع تفكر. لكن في شيء واحد: السيطرة على الكرسي. هذا هو هدف الدولة الأول والأخير.
السؤال خاطئ. من المفروض أن يكون السؤال عن النظام، أو المجموعة التي اختارها الرئيس حسني مبارك لتصاحبه في رحلة الحكم الطويلة.
الدولة إذن ليست موجودة، هناك فقط جسم قديم يسيطر على المواقع الأساسية، ويمكّن الرئيس مبارك من الجلوس مستقراً على كرسيه وبجواره مجموعات إدارة.
إذاً السؤال الصحيح هو: هل تفكر المجموعات التي اختارها الرئيس مبارك لتدير له شؤون البلد الذي يعتلي كرسيّه؟
ما يبدو للأعمى، بعد ٣٠ سنة، أنّ هذه المجموعة ليست إلا إجساماً متنافرة، عقلها مبرمج على خدمة الكرسي، معظمهم من متوسطي الذكاء والموهبة، يصلحون فقط لأداء أدوار المجاميع في أفلام الحروب القديمة.
ولهذا فإن ما وصلنا إليه طبيعي جداً. البنية الأساسية تنهار تقريباً. مع الإشارة إلى أن البنية الأساسية هي مفخرة عصر مبارك، ومشروعه القومي، واختياره الحكيم ليبني البلد، بدلاً من جره إلى حروب بلا طائل.
بعد ٣٠ سنة الرئيس نفسه يسأل: لماذا تقطع الكهرباء؟ الكهرباء تغيب عن مدن كبرى بالأيام، وتتبادل أحياء العاصمة الحياة في العتمة، ورئيس الشركة يصرّح في صحيفة حكومية: اختاروا قطع الكهرباء بالتبادل أو الإظلام التام.
هذه حقائق صادمة. لكن الصدمة الأكبر: الحكومة تتبادل الاتهامات، ولا تبحث عن حل، يشغلها أن تلقي بالتبعية على أحد.
المسؤول التقليدي ظهر في وقت مبكر من الأزمات وقال التصريح المعتاد: المواطنون وزيادة الأحمال هم السبب. المواطن لا بد أن يشعر بالعار لأنه أصبح حملاً ثقيلاً على الدولة.
هو السبب في العتمة التي تعيشها مدن كاملة. هو السبب في عودة الظلام، وانتعاش خفافيش الجريمة. لكن هناك حقيقة أخرى تتسرب من كواليس الحكومة، وتكشف أن السبب الحقيقي هو أزمة في الغاز الطبيعي بعد تصدير كميات كبيرة إلى إسرائيل ودول أخرى.
هل فعلاً تصدير الغاز لإسرائيل وراء الازمة أم أنها رغبة في تسييس قضية يومية وإشعال غضب الفرد العادي في مصر من سياسات النظام؟
مصادر من شركة الكهرباء قالت إن انخفاض معدل إمداد محطات الكهرباء بالغاز الطبيعي بدأ منذ عام 2004، حيث انخفض بنسبة 2 في المئة، وتزامن ذلك مع بدء وزارة البترول تصدير الغاز الطبيعي بكميات كبيرة إلى إسرائيل ودول أخرى.
الأزمة هي انخفاض نسبة الغاز الطبيعى المستخدم فى محطات الكهرباء إلى نحو 79 في المئة، بعدما كانت 98 في المئة.
وزارة البترول ورّدت بدلاً من الغاز مازوتاً غير مطابق للمواصفات، وخسرت الشبكة القومية للكهرباء نحو 1600 ميغا وات.
هل الحكومة، التي اتفقت على تصدير الغاز إلى إسرائيل، غير الحكومة التي تجبر الناس بسبب خطاياها على الحياة في الظلام؟
انقطاع الكهرباء يعيد البلاد الى حالة شبيهة بحالات «الحرب»، وينذر بكوارث اجتماعية. مرةً أخرى أين عقل النظام؟
عقل النظام عشوائي، يترك لكل مسؤول مساحة، ما دام مرضياً عنه. وزير البترول، سامح فهمي، قريب من الباب العالي، يفعل ما يشاء، ولا يحاسَب على المازوت الفاسد الذي أضاع طاقة كهربائية.
هل هناك من يخطط؟ ويعرف احتياجات البلاد؟ هل هناك من يعرف كيف تواجَه الكوارث في مصر؟ إنه عقل عشوائي، لا تنشط فيه إلا خلايا إفراز حيل الحفاظ على الكرسي.
وائل عبد الفتاح
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد