الفلسفة في التراث الإسلامي ضرورة أم فضول وترف؟

16-08-2010

الفلسفة في التراث الإسلامي ضرورة أم فضول وترف؟

لماذا وجدت الفلسفة في التراث الإسلامي؟ ومتى؟ وكيف؟ وهل كان وجودها عن ضرورة أم عن فضول وترف؟ لعل الإجابة تتوقف على تحديد معنى الفلسفة ومفهومها، التي قد لا يقع الاتفاق عليها بين فيلسوف وآخر، ولا بين مدرسة وأخرى، كما يظهر عند كلِّ من صنَّف تاريخ الفلسفة ومدارسها التاريخية والحديثة وليس بين دعاتها المعاصرين فقط، فهناك من يعرّف الفلسفة بأنها حب الحكمة، بينما يرى آخرون بأنها مواصلة السؤال عن حقيقة الحكمة، وكيفية التوصل إليها، وتفعيل انعكاساتها على حياة الإنسان، إضافة لمن يتخذها أداة معرفية عقلية في مشروع نهضوي فكري أو سياسي.

أما لماذا وجدت الفلسفة فهي بيت القصيد، لأن كل حديث آخر عن الفلسفة في التراث الإسلامي والعالميّ لن يعطي جواباً شافياً عن طبيعة الفلسفة، فضلاً عن أن يعطي جواباً عن دورها الدنيوي، أو الديني، فبين اعتبار الفلسفة خلاصة الفكر البشري الساعي وراء الكمال، وزبدة العقول الثاقبة المتشوقة إلى إدراك الحقيقة، كانت نشأت الفلسفة دنيوياً كما يقول أحدهم، وبين اعتبارها تأويلاً للوحي مطابقاً للحقيقة، من طريق الكشف والعرفان، ودون بحث وبغير منطق وفوق طور العقل، وإلا تدنت عن مستواها المتعالي، كما يفسرها آخرون ممن وصفوا بأصحاب الفلسفة الإشراقية.

وفي الحالتين يخرج الجهد الفلسفي بالمفهوم السابق الدنيوي والديني عن معنى الاجتهاد الإسلامي ووظيفته، ذلك الاجتهاد الذي تميز به الفقهاء والمتكلمون، والذي اشتغل في أغلب تاريخه في المحور الرسمي والأهلي من حياة المسلمين، فكان هو الأكثر حضوراً في التاريخ الفكري الإسلامي، لدرجة جعلت فكر المتكلمين والفقهاء في تناغم وثيق بين سلطتين تتشاركان في رعاية المسلمين وطمأنتهم على استقرارهم الدنيوي ونجاحهم الأخروي.

بينما ترسم المشتغلون في الفلسفة قديماً وحديثاً دور المعارضة الفكرية أو المعارضة السياسية في الغالب، إما رغبةً أو رهبةً، أما قديماً فقد كان من أهداف من اشتغل في الفلسفة إثبات نفسه خارج نطاق ثقافة العامة، ليثبت أنه يمكن تحقيق الاكتفاء المعرفي والقيمي خارج الفكر الديني الرسمي أو الأهلي، ولذلك قابله من المتكلمين المسلمين من جعل هدف الفلسفة هو إثبات تهافت الفلاسفة وبأدواتهم الفلسفية، كما فعل الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة»، وبهدف تغيير مقاصد الفلسفة من نظريات ثقافية وسياسية معارضة إلى أداة معرفية فقط، كما فعل المؤلف نفسه في كتبه «مقاصد الفلاسفة» و «محك النظر» و «معيار العلم» و «فضائح الباطنية» وغيرها، وبهدف أن لا تبقى الفلسفة أداة ثقافية يستغلها المعارضون السياسيون في قيادة العامة بالتهويل والتعالي على ثقافة المجتمع والعامة.

أمّا أول الفلاسفة العرب الكندي، والمعلم الثاني أبو نصر الفارابي، ورئيس الحكماء ابن سينا، وأبو حيان التوحيدي، وابن رشد وغيرهم، فقد كانت جهودهم الفلسفية كبيرة، ولكنها كانت تفتقد في كل مرة إلى الاحتضان الجماهيري، وبقيت جهوداً فردية خاصة ولم تؤثر في العامة، وسواء كان لها امتدادات سياسية في واقعها التاريخي أو بقيت محصورة في المجال النظري، فإن محيط الفكر الديني كان أكثر حضوراً وتمثيلاً للساحة الفكرية، وهذه ظاهرة كان من الواجب دراستها ومعرفة أسبابها، فهل وقع الفلاسفة في أخطاء تجعلهم دائماً خارج الانتماء الجماهيري، وكأن الفلسفة مشروع للفكر والعمل الفردي، بينما الدين مشروع للفكر والعمل الجماعي، أم أن الفلسفة قديماً وحديثاً عملت في الساحة التي لا تطمئن لها الجماهير المسلمة، فـكانـت في كل زمن أقــرب إلى الثــقـافـة الـبديــلة عــن الديـن أو المنافسة للفكر الديني في أحسن أحوالها.

إن كل من يشتغل في الفلسفة المعرفية وليس التفسيرية معنيٌّ أن يبحث عن أسباب نجاح من يشتغلون في الوسط الفكري الديني قديماً وحديثاً، ومعرفة السر في قدرتهم على إيصال رسالتهم إلى الجماهير وتحريكها، بينما بقي الفلاسفة قديماً وحديثاً خارج نطاق التأثير الجماهيري، على رغم ما توافر لهم في العصر الحديث من منابر جامعية، وكراس أكاديمية في كل الجامعات العربية والإسلامية، فمعرفة الأسباب ربما كانت عاملاً مساهماً في التجديد المنشود، وعدم تبرير الإخفاق في مجال واحد، وهو التقاء المصالح السياسية مع المصالح العلمية في صناعة الدول القديمة والجديدة.

إن الجماهير العربية والمسلمة اليوم وبالأخص طلبة الجامعات والجماعات الإسلامية أكثر انفتاحاً على سماع كل الأطراف، ومتابعة كل الأوساط التي تسعى وتعمل على التأثير في حركة المجتمع وقيادته، سواء كانت أوساطاً رسمية أو أهلية، دينية أو فلسفية، تراثية أو معاصرة، وقادرة أيضاً على التواصل المعرفي والحواري مع كل الأطراف عبر القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية والمدونات الفكرية أو السياسية أو الفلسفية، وهذا يعني أن الجماهير شبه حرة في التعبير عن مواقفها الفكرية والفلسفية والاجتماعية والسياسية، ولكنها تحتاج إلى قناعة وإرادة وتشجيع، من أجل بناء فكرها ومناقشة غيرها وحرية تنقلها الثقافي من دون قيود.

ربما وقع فلاسفة الماضي في أخطاء جسيمة عندما جعلوا الثقافة الوافدة منافسة للثقافة الدينية المحلية، وفي حينها كان المسلمون يشعرون بالقوة والاعتزاز بسبب مكانتهم السياسية الدولية، فكيف يمكن في لحظة الضعف المعاصر وفي زمن القهر الجماهيري من الاحتلال الأجنبي، كيف يمكن تغليب ثقافة وافدة على ثقافة محلية للمسلمين، إن المقاومة ستكون أكبر والعاطفة المضادة ستكون أشد، وفي المقابل لا يمكن في هذا العصر التقوقع على الذات، ولن ينفع رمي الآخرين بالرجعية ولا بالتقدم، ولا بالليبرالية ولا بالتعصب، فالحوار مفتوح، والغلبة للحجة والبرهان، والعبرة التاريخية تقول: العاقل من اتعظ بغيره، فالتشدد التاريخي في رفض الحوار الداخلي لم يوحد الساحة الفكرية الإسلامية في الماضي، بل وفر لأصحاب الأهداف المغرضة داخلياً وخارجياً فرصة قوية لاستغلال هذا التشنج الفكري لمصالحه وخطط تدخله في البلاد الإسلامية.

إن على كل المؤتمرات الإسلامية والفلسفية أن تفتح باب الحوار واسعاً، وأن لا تغلق غرفها الفكرية ولا تحصرها في نطاقها الخاص، فلا بد للمواطنين من أن يسمعوا كل الأصوات الفكرية وحججها، وأن تترك لهم نوع القناعة به، ونوع الاستفادة منها، وبالأخص في الجانب العقلي البحثي، وعدم اتخاذ الفلسفة منافساً للثقافة المحلية سواء كانت دينية أو غيرها، وإلا فلن توجد حاضنة جامعية لها، فضلاً عن أن توجد حاضنة اجتماعية أو مدنية لها، فكيف إذا كانت تسعى لجعلها في بعدها المعرفي مشروعاً نهضوياً، إن من الأهمية بمكان أن لا تبقى الجهود المعرفية الفلسفية في نظر المعارضين لها شططاً فكرياًً، ولا تفلتاً أخلاقياً، ولا براغماتية سياسية، وأن لا تبقى صورة الفلسفة في البلاد الإسلامية مشروعاً لإقصاء الدين في نظر المسلمين وإنما جعلها منهجاً في المعرفة والبحث، وليس هيمنة ثقافية غريبة ولا غربية.

محمد زاهد جول

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...