الجدالات في مسألة الهلال بالرؤية أو بالحساب

14-08-2010

الجدالات في مسألة الهلال بالرؤية أو بالحساب

تثير مسألة تحديد بداية شهر رمضــان ونهايته كل عام جدلاً حاداً بين المسلمين خصوصاً حول الأخذ بالتقدم الحادث في علم الفلك والأقمار الاصطناعية التي تستخدم في رصد النجوم والكواكب.

وجاءت فكرة القمر الاصطناعي الإسلامي كوسيلة لرصد الهلال لتكون هي الفاصلة في هذه المسألة، ولتتوحد الأمة الإسلامية على كلمة سواء. ومنشأ هذا الخلاف أتى من جانبين، الأول يتعلق بما جاء في الأحاديث النبوية الشريفة، فقد كان من الطبيعي في العصور الإسلامية المبكرة أن ترتبط رؤية الهلال بالرؤية البصرية، لأنها الوسيلة الوحيدة الممكنة في ذلك الوقت لاستطلاع القمر، ومعرفة دخول الشهر ولم يكن وارداً أن يكلفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بغير ذلك، مما لم يكن متيسراً لهم لأنه يكون تكليفاً بما لا يطاق... «ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها». ولهذا قال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً»، وقال: «لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه». وجاءت رواية أخرى في هذا السياق تعلل الاعتماد على الرؤية، حين قال عليه الصلاة والسلام: «إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب الشهر هكذا، وهكذا»، يشير إلى أنه 29 يوماً أحياناً و30 يوماً في أحيان أخرى، وذلك من خلال ما عرفوه من رؤيتهم للهلال على مر السنين.

هذا التعليل بكونهم أمة لا تجيد الحساب ولا الكتابة يعطينا مفهوماً طبيعياً، وهو أنهم لو كانوا أمة تجيد الحساب والكتابة، لأمكن الاعتماد على الحساب كوسيلة أخرى، وهذا يعني أن الأمة الإسلامية حين تتقدم وتجيد الحساب الفلكي المقصود هنا كما حصل، يمكنها الأخذ به في معرفة بدء الشهور القمرية، لا سيما والرسول لم يقل: لا تصوموا إلا للرؤية. بل قال: صوموا لرؤيته.

وكانت وسيلة الرؤية هي المتيسرة للجميع، فكان الاعتماد عليها في ذلك الوقت هو المنطق الإسلامي الطبيعي، وهذا لا يمكن أن يسد الباب أمام أية وسيلة أخرى.

الجانب الثاني يتعلق بنشأة علم الفلك، فقد ارتبط علم الفلك في العصور الإسلامية المبكرة، بالتنجيم، وأطلق على الفلكيين آنذاك المنجمين، وهم الذين يتحدثون عن النجوم ومسارها أو مواقعها، ويدعون أنها تنبئهم بمجال الإنسان، ويرضون بذلك غرائز الناس في حب استطلاع المستقبل، وهم غير صادقين في ما يتنبأون به، لأن أقوالهم لا تقوم على أساس علمي دقيق، ولكنهم يرسلون الكلام إرسالاً، وقد يصدق مصادفة، وغالباً لا يصدق، ولذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام عنهم «من صدق كاهناً أو منجماً فقد كفر بما أنزل على محمد». وقد ألقى هذا ظلالاً كثيفة على المنجمين الفلكيين القدماء، وأدى إلى عدم الالتجاء إليهم أو تصديقهم.

حدث تحول مهم بمرور الوقت ونتيجة لاهتمام الإسلام بالعلم ودعوته إلى تأمل حقائق الكون وأسراره، ما فرض عليهم أموراً تستلزم دراسة الكون ومعرفة الزمن والأوقات لتحديد مواقيت الصلاة وظهور الهلال ومواعيد الأعياد وتأدية المناسك والعبادات وتحديد اتجاه القبلة ومواقع البلدان. لذلك بدأ الاهتمام بدراسة الفلك والأرصاد واستعانوا في أول الأمر بمعلومات الأمم السابقة، ثم استقل علم الفلك عن التنجيم، وصار لعلماء الفلك احترامهم وتقديرهم بخاصة منذ العصر العباسي، حيث أصبح علم الفلك علماً رياضياً يقوم على البرهان والحقائق العلمية، وكان لأبحاث ابن الهيثم ومؤلفاته دور في إحداث هذا التحول في علم الفلك، فقد أثبت من خلال أبحاثه أن النجوم لها أشعة خاصة ترسلها، وأن القمر يأخذ نوره من الشمس، وحسب علو الطبقة الهوائية المحيطة بالأرض وقدرها بخمسة عشر كيلومتراً، كما انه اهتم بتعليل ظهور الهلال والغسق وقوس قزح واخترع أول نظارة مكبرة للقراءة، واعترف المؤرخون بفضله الكبير، وواكب تقدم علم الفلك في عصر النهضة الإسلامية انتشار المراصد في جميع أنحاء الدولة الإسلامية، فقد بنى الأمويون مرصداً في دمشق، اعتبره بعض الدارسين أول مرصد في الإسلام، وبنى أولاد موسى مرصداً في بغداد، وأنشأ الفاطميون المرصد الحاكمي على جبل المقطم وقد اشتهر بأجهزته الدقيقة وبتفوق المشتغلين فيه. وكانت هناك مراصد أخرى عدة في الشام وأصفهان وسمرقند ومصر والأندلس.

وإلى جانب قيام المراصد الفلكية تمكن العلماء من اختراع العديد من الأجهزة الدقيقة التي تستخدم في عمليات الرصد مثل المزولة الشمسية والساعة المائية لتحديد الزمن والإسطرلاب العربي لتحديد الارتفاع ومعرفة الزمن والأوقات. ولقد شاع استخدام الإسطرلاب في المراصد التي أنشأها العرب، وهو الأساس لنظرية عمل جهاز التيودوليت الحديث المستخدم بكثرة في أغراض المساحة الجيولوجية لقياس الزوايا الأفقية والرأسية.

وكان لهذا التقدم أثره على موقف الفقهاء من علم الفلك، فتقي الدين السبكي يذكر في فتاويه، أن الحساب إذا دل بمقدمات قطعية على عدم إمكان رؤية الهلال لم يقبل فيه شهادة الشهود، وتحمل على الكذب أو الغلط، ثم يقول: «لأن الحساب قطعي والشهادة والخبر ظنيان والظن لا يعارض القطع، فضلاً عن أن يقدم عليه والبينة شرطها أن يكون ما شهدت به ممكناً حساً وعقلاً وشرعاً، فإذا فرض دلالة الحساب قطعاً على عدم الإمكان استحال القبول شرعاً لاستحالة المشهود به والشرع لا يأتي بالمستحيلات» ثم يقول بعد ذلك: «وأعلم أنه ليس مرادنا بالقطع ها هنا الذي يحصل بالبرهان الذي مقدماته كلها عقلية فإن الحال هنا ليس كذلك وإنما هو مبني على أرصاد وتجارب طويلة وتسيير منازل الشمس والقمر، ومعرفة حصول الضوء الذي فيه، بحيث يتمكن الناس من رؤيته والناس يختلفون في حدة البصر».

وكان للشيخ المراغي حين كان رئيساً للمحكمة العليا الشرعية في مصر رأي كرأي السبكي، أثار به جدلاً شديداً، إذ رد شهادة الشهود برؤية الهلال لاستحالة رؤيته فلكياً، ولكن رأيه هذا أثار معارضة العديدين منهم العلامة أحمد شاكر ووالده، ثم رجع أحمد شاكر عن هذه المعارضة بمرور الوقت. وزاد على ذلك أنه يجب إثبات الأهلة بالحساب في كل الأحوال إلا لمن استعصى عليه العلم به. وعلى رغم هذا كله ظلت الرؤية هي الوسيلة الوحيدة عندهم لإثبات دخول الشهر الهجري. وتمسك بهذا الأمر علماء كثر، إلى أن عقد في لندن في أيار (مايو) عام 1984 مؤتمر علمي إسلامي، لمناقشة هذا الأمر، وأوصى المؤتمر في نهاية اجتماعاته بأن الحساب العلمي الفلكي لو قرر وجود الهلال في الأفق بعد غروب الشمس ولو لدقيقتين فقد دخل الشهر، ولو لم يره أحد. وكان هذا أول ملتقى فكري إسلامي، يقرر هذه الحقيقة. وفي العام نفسه بحث مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر هذه المسألة بناءً على طلب من منظمة المؤتمر الإسلامي، وانتهى إلى أنه «نظراً لأن البلاد العربية تتحد في وجود القمر في أفقها بعد غروب الشمس وإن اختلفت مدة مكثه من بلد وآخر، يمكن للبلاد العربية أن تعتمد على الحساب الفلكي وتتوحد بذلك الأحكام المترتبة على ثبوت في الرقعة الكبيرة من العالم الإسلامي من حيث بدء الهلال، والأعياد والحج وغير ذلك».

خالد عزب

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...