مَنْ يكره أدونيس
هل يدخل الأغبياء الجنة؟ مجرد سؤال لفتح نقاش, فبالأسئلة نمحو مساحات الغباء..
الأصدقاء يستبطنون ذاكرتنا ويستمرون في التفكير عبرنا حتى بعد موتهم.. وبالأمس رأيت المرحوم برهان بخاري في منامي.. كان يتعكز عليّ في المسافة التي تفصل منزله عن منزل المرحوم محمد الماغوط في حي المزرعة عندما قال لي: الحياة كذبة كبيرة يا عزيزي, وسلوكك هو ما يجعلها حقيقية أو يساهم في تضخيم الكذبة ..
قد تعطي محبتك وبعضاً من عمرك لصديق أو قريب أو حبيب فيرمي محبتك وعطاءك في الرمل, وقد تلتقي بعدوٍ يعرف قيمة ما يخسره بعداوتك، وهذا مايعيدني لحكمتي: قل لي من تعادي أقل لك من أنت .. فعدوٌ ذكي خير من عشرة أصدقاءأغبياء على الشجرة, وأقصد شجرة عمرك التي يقطف ثمارها غيرك .
ما أغبى هذا العالم وما أغباني: هذي أذكى جملة كتبتها منذ عشرين عاماً، "فالعلم المستقر كالجهل المستقر" بحسب رأيي ابن عربي، ومعرفة حرف واحد قد تستهلك منك أكثر عمرك, فإذا أدركته وعرفته تنفتح أمامك حقائق الأبجدية والحياة، ففي البدء كانت الكلمة والنبي الأمي بدأ بإقرأ.. وأذكر أن الشاعر الصوفي المرحوم محمود السيد اتخذ من حرف الألف باباً لدخول دارالحداثة فاقتبس شعاراً لمجلة "ألف" يقول: "يا عبد كل الحروف مرضى إلا الألف، أما ترى كل حرف مائل، أما ترى الألف قائما غير مائل, إنما المرض الميل للسقام فلا تمل".. فمعرفة الألف ستقودك نحو الباء لتبدأمن النقطة التي تحتها, هذه النقطة الوهمية التي ليس لها أبعاد ولكن لا يمكن لك البدء في أي شيء قبل تحديد نقطة بدايته, حيث النقطة مركز الكون وسر الهندسة، والرب هو مهندس الكون الأعظم .. وهذا هو الباب الذي فتحه برهان في تفكيري عبر جملته مع تغيير في كلمة واحدة فيها بحيث تصبح: الحياة كذبة كبيرة, وإيمانك بها هو ما يجعلها حقيقية..
إذاً فالإيمان والذكاء مرتبطان ولا يمكن للأغبياء ولوج جنة المعرفة: وهذا جواب سؤالي في المقدمة.. فإذا دلفنا من الباب الذي فتحه (برهان البرهاني) كما كنت أدعوه مداعباً في جلساتنا، نلاحظ أن سمة الغبي أنه شخص يعتقد بأنه ذكي, وميزة الذكي معرفته بأن في عقله ركن من الغباء وهو يسعى جاهداً لتقليص مساحته.. لا أحد يولد غبياً, غير أن مشكلة الغباء هي مشكلة كسل عقلي بالدرجة الأولى, والكسالى هم أولئك الذين يرتاحون في البقاء داخل قطاع (المُفكَر فيه) فيفضلون مثلا مشاهدة (باب الحارة) ويستمعون إلى خطبة الواعظ الذي يتحدث عما يعرفونه بينما يخشون ممن يقودهم نحو التجديد والحداثة التي تتطلب جهدا في التفكير، وبهذا ندرك لماذا " الناس أعداء ماجهلوا " كما قال الرسول الكريم، و نفهم لماذا يُحارَب المجدِّدون في الفقه والفكر والنثر والشعر والأزياء حيناً من الدهر, إلى أن يصبح هذا الجديد عتيقا مع مرور الزمن فيألفونه ويتقبلوه .. وهذا يقودنا إلى حكاية الشرطي والسكّير الذي كان يفتش عن مفاتيحه تحت عمود الكهرباء مع أنه أضاعها في مكان آخر، وعندما يسأله الشرطي لماذا لا يفتش عنها في المكان الذي سقطت فيه يجيبه السكير: إني أفتش في الحيز الذي أستطيع أن أرى فيه.. وكذلك هم الكسالى الأغبياء الذين يتجنبون دخول (قطاع اللامُفَكر فيه) الذي يتنطع له الأذكياء والأنبياء والمجددون الذين يتعرضون لحجارة المحافظين والأصوليين في مجتمعاتهم، كما حصل مع سيدنا محمد (ص) أكبر المجددين في تاريخنا العربي, عندما حطم أصنام وآلهة وحكايات الآباء في مجتمع مكة المحافظ, فقلب حياة الجزيرة رأسا على عقب حتى غدا العرب في مقدمة الأمم.. واليوم, بعد أن نهضت أصنام الأصوليين من رقدتها, أرى أن المجددين هم من نسل الرسول ومريديه, بينما المحافظون هم بقايا قريش المتمنعة في دار أبي سفيان، فمتى يكتمل الفتح المبين ..
هامش: عندما تتكرر لفظة (المرحوم) قبل اسم كل صديق تذكره فهذ يعني أنك قد أصبحت عجوزاً مثلي و تجاوزت الخمسين .. بعشرة أشهر فقط ، أي أنك بدأت بالزحلقة عن قمة حياتك حيث النساء يستمعن أكثر مما ينظرن إليك ..
نبيل صالح
إضافة تعليق جديد