اهربي بعيداً.. سكين الشرف يبحث عنك
مازالت القرية تتحدث عن فتاة الرابعة عشرة، التي خرجت من هذه الضيعة الجبلية في موكب الفرح ترتدي ثوب الزفاف الأبيض دون أن تفرق بين لعبة العرس التي لعبوها على مصطبة الدار، وبين حكاية آخر الليل في أول ليلة كألف ليلة في الشرق تغتال فيها طفولة بناتنا التي لا نعترف بها.
الصغيرة التي أرادوها كبيرة، وانتشلوها من بين صديقاتها، رموا دميتها البسيطة، ليعدوها بطفل من لحم ودم سيولد من رحم طفلة.
تتذكر سعاد طوال الطريق كيف كانت تقوم بدور العروس وتلون وجهها بقلم الحبر الأحمر، ترقص حولها الصغيرات في مثل سنها، يستخدمون قطعة الشاش التي كانت تغطي بها أمها المربى، تصنع الأكبر بينهن وردة عفوية بالقماش المزمزم، يضعوها على رأسها، و يطرقون على التنك في زفة طفولية.
سعاد التي استحقت اللعنة من الجميع بعد أن هربت من منزل الزوجية بصحبة بائع متجول، هي الآن تائهة في مكان ما على هذه الأرض التي تمتهن الظلام، لم نعد نسمع عنها، ولا نجرؤ أن نسأل والدها الشيخ الكبير، لأنه حرم على كل أهل الدار ذكر اسمها، وغسل فناجين القهوة، وقلب العدة، يمينا على نفسه أن لا يشعل نار قهوته العربية حتى يغسل عاره بدمها.
الجارة التي تململت كثيرا، وهي تحكي عنها، مرة تصف جمالها، مرات تتحدث عن طهر البراءة في عينيها، وأخيرا تلعنها كما يفعل الجميع، وتتغنى بصدق الأمثال وتقول مع تنهيدة: صحيح ((ياما تحت السواهي دواهي.))..
أخذتها بحديث الود، لأني رغم اللعنات التي مارستها، واللعنة شهادة لإثبات براءتنا واستنكارنا، رصدت أن قلبها يحن لتلك الطفلة، المرأة، الجارة، التي كانت طويلا تؤنس لحظات الفراغ بين عمل منزلي وعمل، سألتها إن كانت تحب تلك الفتاة قبل أن تهرب، وبدون أن تشعر أخذت تنكش ذاكرتها، وتغير من لهجتها تباعا، وتروي لي وقائع لم يتوقف عندها أحد حين قرروا إعدامها جميعا، ولو في الذاكرة لأنها لحد الآن مجهولة المكان.
كان أبوها رجلا قاسيا أعطى كلمته لضيف مهم زاره ذات يوم، وبعد طول الكلام وعده بها بالثوب الأزرق أو الأخضر لا أعرف بالضبط، ودون أن يختار العريس أو تقبل العروس كأضعف الإيمان، عقد الوالدان العزم على شد أواصر المودة بوثاق منتزع من شرايين رقبة طفلة.
تزوجت سعاد، غريبا عنها قالوا لها سيكون أهله أهلك الجدد، وهو سيكون آمر ما تبقى من حياتك.
كنست سعاد دار أهلها الجدد رعت دجاجاتهم، حلبت مواشيهم، دللت شهوة ابنهم شهرا أو أكثر، ثم عاد إلى رحلة البحث عن الرزق في بلاد النفط البعيدة، وهي تتابع أعمال الأسرة الكبيرة تخدم كبارهم، وتدلل صغارهم، وتضيع طاقتها الأنثى التي أخذت تزهر يوما بعد يوم في ثرثرات مع الجارات اللواتي صرن جميعا معلمات للمرأة الغضة، معلمات في الطبخ والغسل، والتقاليد، وآداب الكلام، وهي تتلوى بين جسد يلهث أنوثة، وقرية لا تعترف بحاجتها إلى الأمان والدفء واحتضان شبابها الذي ينضج سراً.
سيارة الهوندا التي كانت تحمل للبنات هدايا عرس جديد في الضيعة، حملت معها ذلك الرجل الضخم الذي اعتاد ملاطفة النساء ليسلبهن ما في جيوبهن طوعا ببضائعه المثيرة، بأقلام الحمرة، والكحل والعطور الرديئة، وبعين الخبير رصد ذبول الزهر في صدر هذه الجميلة الصغيرة التي لم تكن بعد زواج عمره سنتين قد أتمت السادسة عشرة ..والزوج مازال غائبا.
استطاع الرجل الضخم أن يداعب الرغبة المدفونة بين جنبيها، سطى على أسرارها، وصار ينعم بلمسة في الخفاء من يدها، تركها للحلم، لليل من الأشواق حركه جهلها وضعفها واحتياجها لرجل، أخيرا اقتنعت، ضبت الصرة قبل الفجر، وتسللت معه بعد أن استبدلت حلم الحصان الأبيض الذي تعيشه كل الفتيات بسيارة الهوندا، واختارت انتظار الموت في لحظة ضعف أ و رغبة، لا أعرف، لكني أحاول أن أكون مع الأطفال عادلة، ولأن الجنة في السماء لم أنصب محكمة لعقابها.
لا أدري أين أصبحت سعاد اليوم، وإلى أي مجهول سحبتها مجاهيل الحياة، هل تعيش الحب الذي هربت باحثة عنه بعد أن رفض والدها رغم طول شكواها أن يأخذها معه في كل مرة زارها فيها، هل رماها ذلك الفارس بهوندايته المجنحة للحياة تلعب بمصيرها، هل تاجر بها وباعها لأصدقاء، هل فرش معها فراش الزوجية، وأنجبت أطفالا يعوضون خسائرها، أم أنها انتهت في بيت قوادة محترفة خاصة وهي عزلاء تماما بلا علم بلا شهادة، بلا مهنة، بلا خبرة، بين الطفولة والمراهقة.
سعاد أيتها الطفلة التي عليك أن تدفعي ثمن أخطائهم جميعا، وتحملي ذنب قصور وعيهم ووعيك، لم يعد لديك حضن أمان يستقبلك، سكين الشرف ينتظرك، وربما يبحث عنك في أصقاع البلاد، مهما كان مصيرك المحتوم أتمنى من كل قلبي أن لا يصل إليك.
ميس الكريدي
المصدر: مجلة الثرى
إضافة تعليق جديد