مؤسسات التمويل الإسلامي: قراءة نقدية لممارساتها
هنالك ممارسات تنتسب إلى التمويل الإسلامي لا تختلف عن ممارسات التمويل التقليدي بحسب المراقبين والمحللين الاقتصاديين إلا في المصطلحات والشكليات المُتبعة، فمثلاً يُمنح التمويلُ الشخصي في بعض المصارف الإسلامية في جنوب شرق آسيا على أساس القرض الذي يُسمى «حسناً»، أي بلا فائدة، لكن يُرغم المقترض، كشرط للقرض، على تقديم رهن بالمبلغ المُقترَض في صيغة وديعة للحفظ كحُلي ذهب مثلاً، ويُطالب بأن يدفع أجراً عن حفظ المصرف لهذا الذهب! وهذا الأجر هو نسبة مئوية من المبلغ المُقترَض تساوي أو تقترب من الفائدة التي تستوفيها البنوك التقليدية عن نفس المبلغ!!
ويمنح بعض المصارف الإسلامية في الدول العربية التمويل الشخصي النقدي بطريقة «أشطر» عبر ما يسمّى بالتورّق، فهي تطلب من العميل طالب التمويل أن يوقع عقداً يُخبر فيه أنه يشتري شيئاً بثمن مؤجل محدّد، ثم يُطلب منه مباشرة توقيع عقد آخر يُخبر فيه أنه باع ذلك الشيء الذي اشتراه في العقد الأول بثمن أقلّ من الأول، فيقبض المبلغ الحال، ويبقى عليه أن يدفع المبلغ المؤجل الأعلى على أقساط بزيادةٍ قد لا تختلف كذلك عن الزيادة التي يدفعها المقترض لمثل ذلك المبلغ بالفائدة! أي أن مآل الأمر أن العميل طالبَ التمويل قد نال المبلغ الذي أراد وتوجب عليه أن يدفع زيادة عما أخذ، بطريقة ظاهرها البيع، لكنها من حيث المآل والنتيجة لا تختلف في جوهرها عن القرض الربوي، بل ينحصر الأمر في الشكليات المتبعة، وغاية الأمر أنه يوقع في عقد الربا التقليدي عقداً واحداً ليحصل على التمويل الشخصي، ويوقع في التورق على عقدين، والمآل واحد.
هذا مثال لبعض أنواع التمويلات المتبعة في المصارف الإسلامية، وهي أنواع كثيرة يجمعها ضابط من اعتماد الشكليات، والخلو من المخاطر التي لا تنفك عن المعاملات الشرعية الحقيقية من بيع وإجارة ومشاركة، حتى صارت عقود الاستثمار من مشاركة ومضاربة خادمةً لهذا النوع من التمويلات.
وإن كان المُفتون بهذه العقود المشبوعة يسوغون تطبيق الحيل في التمويل المصرفي الإسلامي بحجة وجود الحيل المالية في كتب الفقه التراثية، فالجواب أن الحيل المالية قد وُجدت من قبل في العصور السالفة من عمر الدولة الإسلامية، لكن في اجتهادات فردية شاذة عن قول جمهور الفقهاء، وفي ظروف واعتبارات مختلفة، فهي كانت تصرفاتٍ فردية مقصورة ومحدودة وتُفعل على استحياء، وفي ظل نظام حُسبة وقضاء إسلامي يراقب ويتدخل إن استدعى الأمر كما ذكر ذلك بعض كتب الفقه، ولم تكن تعد أصولاً لتعاملات مالية تشكل نواة عمل مؤسسات تُقدم للعامة على أنها البديل الشرعي عن الربا ويُفاخر بها!
وإن كان بعض الشرعيين والعامّة يظنون أن المصطلحات والشكليات كفيلة بإخراج الأمر من دائرة الحرمة إلى دائرة الحل، فقد أساؤوا إلى الشريعة أيما إساءة، فالزنا مثلاً لا يصير زواجاً حلالاً مع التواطؤ على إيقاعه بصيغة الزواج بحضور شاهدين، وتسميةِ المبلغ المدفوع إلى المومس مهراً، مع الاتفاق الضمني بينهما على التطليق بعد قضاء الوطر!! بل إن الشريعة ذمّت المتحايلين على الحرام بالحيل، كتحايلهم على الربا بعقود البيع ونحوها كما تذكر ذلك نصوص الشريعة. وقد أتت قرارات المجامع الفقهية الحديثة لتؤكدّ على تحريم التحايل على الربا، وتنص بالتحديد على حرمة تلك الممارسات المصرفية التحايلية كالتورق، ومع هذا يتفلّت بعض الشرعيين أرباب فتاوى التمويل الإسلامي من هذه القرارات، ولا يلتزمون بها.
إن تجربة التمويل الإسلامي المتضمنة تلك الممارسات قد كشفت عن تدهور خطير في الفكر الإسلامي الاقتصادي المعاصر، وأساءت إلى سمعة المشرعين وقدرتهم على التشريع على مستوى التنظيم العام، وشككت في قدرة الشريعة على مواكبة التطور وصلاحيتها لكل زمان ومكان. فخصوم الشريعة التقليديون يسخرون من بعض الممارسات التي تجرى في ظل التمويل الإسلامي الذي خرج به الشرعيون في زماننا، ومن مهازلها يستمدون مادةً صالحةً لاتهام الشرعيين بالسذاجة واللامنطقية، واتهام الشريعة بالعجز واللاواقعية، وعدم صلاحيتها للتطبيق والحاكمية في عصرنا الراهن في الجانب الاقتصادي فضلاً عن السياسي. ثم يسخرون من الشرعيين أكثر لافتخارهم وتبجحهم بهذا الذي خرجوا به مما لا يعد أكثره في ميزان العقلاء، بحسَبهم، إلا أشبه بالمسرحيات الهزلية!
لقد أعطت تلك الممارسات المشوّهة المسوِّغَ لخصوم الشريعة التقليديين لمهاجمة الشريعة واتهامها بما يشاؤون، وغاب عن أذهان أرباب تلك الممارسات هذا الأثر الخطير الذي يتجاوز دائرة التشكيك في شرعية المعاملة الواحدة إلى قضية تشويه الشريعة الإسلامية إجمالاً، وهو الأمر ذو الأثر الفكري والسياسي الخطير.
وهذا التشويه غير المقصود من شأنه أن يكرس أيضاً في أذهان غير المسلمين الصورة السلبية النمطية للإسلام، فهو عندهم أيضاً دينٌ يفتقر إلى المنطق ويلزم أتباعه تصرفاتٍ وسلوكيات غير عقلانية هي عندهم من مخلفات عصور الجهل والتخلف. أما طَلَقات المديح لنظام التمويل والتشريع الاقتصادي الإسلامي الحالي التي نسمعها أو نقرأها بين الفينة والأخرى من الغرب سياسيين واقتصاديين، ويتبجح بها بعض مؤسسات التمويل الإسلامي ورجالاته، فهي مبنية في بعض الأحيان على ما شاع من وصف التمويل الإسلامي بأنه تمويل يغلب عليه أسلوب المشاركة في الربح والخسارة، ويحرّم الفائدة، ويمنع تداول الديون وبيعها، والفائدة وبيع الدين هما ما تسبب في أضرار شديدة للاقتصاد الغربي. وفي أحايين كثيرة يكون الغرض من هذا المديح الصادر عن رجال الأعمال والبنوك في الغرب جذب أموال المسلمين إلى مؤسساتهم التي أنشأوها في ديار المسلمين أو في ديارهم تحت تسميات إسلامية، فأصول المصرفية الإسلامية التي تقترب من ألف مليار دولار تغري، ولا شك، تلك البنوك بها.
إن وقوف السلطات الرقابية موقف عدم المبالاة من تلك الممارسات قد ترك المجال رحباً لمن قصر نظُره، وخانته حكمته، أو ضعفت نفسه من الشرعيين أن يلوي عنق الشريعة على نحو يؤدي إلى هذا الذي ذكرنا. والغريب أن بعض النزيهين من أصحاب الفتاوى لا يدركون تبعات هذه الفتاوى التي يطلقونها، وحجم الإساءة إلى الدين التي يجرونها. والغريب أيضاً أن عقلاء الأمة ومفكريها لا يقومون بدورهم في استيعاب وتقدير تبِعات هذا العبث بالشريعة، ثم الأخذ على أيدي، أو تنبيه، هؤلاء العابثين.
لقد وضعت الشريعة نظام الاقتصاد الإسلامي ليخدم المجتمع بجميع طبقاته ويُحققَ العدالة، وكثيرٌ من المعروض حالياً لا يخدم ذلك الغرض باتفاق العقلاء، بل هو مسخ عن النظام الاقتصادي التقليدي بكل عيوبه وأضراره التي نشهد شيئاً من آثارها الآن، حتى قال بعض الاقتصاديين والمحللين بعد أن تبجّح بعض المصارف الإسلامية بعيد الأزمة المالية بنظام الاقتصاد الإسلامي الحالي: لو أن المصارف الأميركية مارست أعمالها التمويلية باعتماد نظام التمويل الإسلامي المتَّبع، وكذا نظام تجارة الديون المتبع في بعض المصارف الإسلامية أيضاً، لما اختلفت النتائج!
عبد العظيم أبو زيد
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد