الرؤية التقليدية للتاريخ ونمط التقدم الدائري
بإلهام الرؤية التقليدية للوجود يؤسس الإسلام الانقلابي رؤية متشددة للتاريخ تنحاز عميقاً إلى مكوناته الأولى وقوالبه القديمة التي تصوغ جوهر «أصالتنا»، حتى لو بدا هذا الجوهر متناقضاً مع قيم حيوية، وأبنية جديدة فاعلة في العالم المعاصر، استطاعت بقوة حضورها أن تغير من طبيعة البيئة التاريخية. ومن ثم يدرك هذا التيار التاريخ وكيفية التأثير فيه من خلال آليات تختلف كثيراً عن تلك المتواترة لدى العقل الحديث، ويؤسس منطقه التاريخي على افتراضات من قبيل:
أولاًً: إن الإيمان الصحيح / إيمان الأوائل يظل هو آلية الفعل الأساسية المؤثرة في صناعة التاريخ، كما كان زمن الرسالة، بما يبثه في الفرد المسلم من روح التضحية والجهاد وصولاً إلى نموذج «الشهيد»، بغض النظر عن الوسائل التي يحوزها، أو يمارس بها جهاده والتي تحتل مرتبة تالية في الأهمية طالما توافرت الرغبة العميقة في بذل النفس، عبوراً إلى العالم الآخر «الحقيقي» الذي يخلو من الشر والزيف إلى درجة تدفع كل مسلم صالح إلى طلب الموت / الشهادة، إذ تقول إحدى الأدبيات الرائقة لهذا التيار مفاخرة: «نحن طلاب موت». في هذا السياق نلمس تحريفاً للفهم الإسلامي الرائق لمعنى الجهاد يدفعه باتجاه عدمي تختل معه العلاقة الدقيقة المتوازنة بين طرفي الثنائية التاريخية «الشهادة - الغيب» أو «الدنيا - الآخرة» لمصلحة عالم الغيب، إذ يستحيل عالم الشهادة الدنيوي/ الواقعي/ الإنساني إلى مجرد لحظة عرضية بلا قيمة أو معنى في ذاتها، ولا دور لها سوى بلوغ عالم الغيب/ الآخرة، عبر ما يتصور أنه البلوغ الآمن أو بالأدق «البلوغ الوحيد الآمن» الذي من أجله يتم إهدار الوجود الإنساني، عندما يندفع المسلم إلى حافة الموت من دون تعقل، وليس إلى الرضا به إيثاراً لله عند الضرورة القصوى. وهكذا تتبدى المفارقة.
ثانياً: إن أصالتنا تكمن بالضرورة في لحظة تكوين / تدوين ثقافتنا، وليس في خصوصية تكوينها، ومن ثم فغالباً ما يتم تفسير مفهوم الأصالة في الاتجاه السلبي الذي يحدده بالزمن وينطلق به في اتجاه الماضي حيث لحظة التشكيل الأولى بكل قوالبها وأشكالها لدى الذات العربية الإسلامية هي مستودع الأصالة الكاملة، بما يقتضيه ذلك من ليّ عنق الزمان، وإرباك حركة التاريخ بحثاً عن أصل نقي، من المؤكد أنه لم يعد نقياً إذ لا بد من أنه قد تخصب بالتاريخ ومعطياته، إن لم يتخصب بالآخر وإبداعاته.
ثالثاً: إن توحد الجماعة المسلمة كفيل وحده، بإقالة الأمة من عثرتها ودفعها نحو إعادة امتلاك زمام التاريخ دونما حاجة إلى النقل عن الآخرين أو الاقتباس منهم، أو حتى التلاقح معهم. فكل معرفة، وكل فضيلة موجودة في نصوص الإسلام لا ينال منها الزمان. ومن ثم تصبح الوحدة الإسلامية حول الإيمان الصحيح هي الهدف الأمثل الذي يجب على مخلصي الأمة التوجه صوبه، أما غير ذلك فهو انحراف من كليهما عن القصد والسبيل الصحيح.
على هذا النحو، تتجاهل تلك الرؤية المتشددة طرح الكثير من التساؤلات الجادة حول المكونات الأساسية للبيئة التاريخية في كل مرحلة، وطبيعة الإرادات الفاعلة فيها عبر المراحل المتعاقبة، وهي أسئلة مهمة، كون هذه المكونات وتلك الإرادات هي الصانعة لما نسميه «نمط الذكاء التاريخي» الذي يمنح قوة أو جماعة ما أو فكرة ما أو حتى شخصاً ما دوراً مهماً عن غيره أو نقيضه، في لحظة تاريخية بعينها أكثر من سواها.
ففي المرحلة الأولى الممتدة في عصور طويلة سابقة لهذا المشروع، وعلى تباين هذه العصور في ما بينها، ساد ذكاء «دائري» حيث تمحورت مكونات البيئة التاريخية حول الفرد الحاكم، أو الأسرة / البيت الحاكم، أو الفكرة الملهمة الحاشدة خصوصاً الدين، فكانت لهذا الثلاثي بالأساس قدرة فائقة على صناعة العالم السياسي، كما كانت تغلبه عمليات التراجع والانحدار إلى نقطة الانطلاق الأولى. ففي العصر الكلاسيكي، حيث بنية المجتمعات بسيطة وتخلو من التعقيد أو التركيب كانت عملية الصعود نحو الحضارة تتحقق للجماعة الإنسانية في مدى زمني قصير نسبياً، لأن الإرادة هي الأكثر محورية وتأثيراً في هذه العملية، سواء تولدت من وعي فرد/ ملك أو عائلة ملكية، أو بحفز فكرة قومية، أو بإلهام عقيدة دينية، حيث كان التصميم والتوحد حول فكرة أو خلف هدف كفيلين بإنجازه، حيث معيار المقارنة بين الأمم والجماعات الإنسانية في عالم تقليدي رعوي أو زراعي، وفي ظل بنية تاريخية بسيطة ومتشابهة هو، بالأساس، قدرتها على التوحد وإصرارها على الإنجاز.
وإزاء هذه الطبيعة غير البنيوية لمكونات البيئة التاريخية، تميزت آليات عملها وأنماط تأثيرها بعدم الاستمرارية، وسرعة التحول، وبالانقلابية الجذرية. فالفاعلون في حال تبدل سريع بين قوة وضعف لأنهم يفعلون باعتبارهم أفراداً، أو أسراً، أو حتى أفكاراً. لذا فهم ينزلون إرادتهم على التاريخ بشكل مباشر يؤثر سريعاً، وينتهي أثره سريعاً أيضاً من دون قدرة على صوغ أبنية تاريخية يمارسون فعلهم من داخلها، قادرة على الاحتفاظ بمقومات هذا الفعل إلى مدى طويل، إذ هم أسرى تحالفات محدودة، وآجال قصيرة محكومة بالعمر البشري.
وبالطبع ثمة فروق هنا بين الأفراد، وبين الأسر الملكية، وبين الأفكار القومية المحفزة أو الأديان الملهمة، فمنها من وما يطول تأثيره، ومنها من وما يقصر تأثيره، ومنها ما ينتهي تأثيره تماماً ومنها ما يترك أثراً قابلاً للإحياء، وهكذا... غير أن السمة البارزة لهذا النمط من الذكاء التاريخي والتي تبقى عامة ومجردة تكمن في أولوية الإرادة، وسرعة التغير، كنتيجة لمحورية الفرد، وهشاشة البنى التاريخية التقليدية.
فمثلاً، وعلى صعيد الفرد، أتى ملك ملهم مثل نارمر فوحّد القطرين، وأنشأ الدولة الوطنية المصرية، على قاعدة حضارة زراعية في بدايات عصور الكتابة التاريخية. وجاء أسلافه من الأسرة الرابعة ليبنوا الأهرامات فتترسخ أو تتكثف على أرض مصر حضارة شامخة لا تزال تكافح الزمن «التاريخ» نفسه، ثم يأتي حاكم آخر تعوزه الرؤية أو تنقصه الإرادة في نهاية الأسرة السادسة، فإذا بمصر تدخل عصور متوالية من الفوضى.
وربما كانت الإمبراطورية المقدونية احد أبرز الأمثلة تأكيداً لدور الفرد في التاريخ الكلاسيكي، حيث بلغ بها الإسكندر الأكبر درجة اتساع هائلة في غضون سنوات قليلة وكان ذلك محصلة لروحه الوثّابة وعبقريته الحربية، ولذا لم تلبث الإمبراطورية في التدهور بعد رحيله المبكر بقليل، قبل أن تأخذ في التفكك بعد ذلك.
وعلى صعيد الأسر أو البيوت الحاكمة نجد فارقاً هائلاً بين الأسرة الفرعونية الثامنة عشرة، أسرة أحمس وتحتمس التي حررت مصر من الهكسوس وأعادت صوغ نظريات الأمن والاستراتيجية القديمة في مصر، والتي لا يزال بعضها إلى الآن يتسم بالجدة والعمق، وبين الأسر من السادسة والعشرين وحتى الثلاثين حيث حكم النوبيون، والليبيون ضمناً أو صراحة وسمعنا أسماء كبعنخى وششنق ملوكاً لمصر بعد تحتمس الثالث ورمسيس الثاني، وذلك قبل أن يتكرس احتلالها فارسياً ثم يونانياً مع سقوط الدولة / الإمبراطورية الحديثة / العظيمة.
بل نجد هذا التباين داخل الأسرة الواحدة والممتدة. فشتان مثلاً بين الأسرة الأموية في بدايتها وفي نهايتها، وكذلك بين العصر العباسي الأول حيث سطوة أبي العباس، وفتوحات الرشيد، وانفتاح المأمون، ثم العصر العباسى الثاني حيث لا شيء سوى الضعف والتمزق، ودسائس القصور، ومؤامرات الاغتيال، وسيطرة السلطة الرعوية شبة الإقطاعية المرتكزة على العنصر الفارسي ثم التركي على المجتمع العربي.
وعلى صعيد الفكرة كانت الأديان قادرة على تعبئة أقوام وحشدها معاً، وأيضاً على تمزيق جماعة واحدة بين فرق وشيع. فقد تعذبت المسيحية من روما قبل قسطنطين، كما تعذبت روما بالمسيحية بعده. وفي المقابل اجتمعت قبائل العرب على ما كان بينها من ثارات حول الإسلام، وما هي إلا سنوات قليلة حتى تحول بدو العرب إلى فاتحين متحضرين أصحاب رسالة خرجوا لينشروها في العالمين.
ومن ثم يمكننا فهم كيف استغرقت الحضارة العربية أقل من القرن بين السابع والثامن الميلاديين في ذروة العصر الكلاسيكي حتى تتمكن من ريادة الحضارة العالمية بإلهام الإسلام كعقيدة كبرى بثت في المؤمنين بها رسالة كونية ودعتهم إلى تبليغها للعالم، بما تقتضيه هذه الروح الرسالية من تحضير وترقية أدوات التبليغ حتى تكون الرسالة صادقة وناجعة. لقد نشأت الحضارة في جيل واحد، واستغرقت بعد ذلك جيلين فقط أو ثلاثة قبل أن تصل إلى كل أنحاء العالم القديم الذي يمكن حصره بما يسمى اليوم عالم المتوسط حيث الشرق الأدنى القديم، وأوروبا وأفريقيا شمال الصحراء، وغرب آسيا على أكثر الأحوال وأفضلها.
وهكذا نلاحظ أمراً أساسياً يتعلق بحدود العلاقة بين الثابت والمتغير في التاريخ، نتلمسها في النموذج المصري، ولكنها تنطبق على أغلب الأحوال. فالحضارة الزراعية التي مثلت سبق مصر في التاريخ استمرت كذلك حتى هبوب الثورة الصناعية، ورسوخ الحداثة وتغير نمط الذكاء التاريخي، وهي من ثم حققت درجة توازن متوسط بين الثبات والتغير. وأما الدولة المركزية التي مثلت كذلك سبق مصر في السياسة، فقد زالت نهائياً بوقوع مصر في قبضة الاحتلال الروماني قبل بداية العصر الكلاسيكي، ثم الفتح الإسلامي، وذلك بعد تراجعات متكررة أمام الهكسوس الرعاة، والفرس واليونان المتمدنين. وهي من ثم تحقق درجة توازن محدودة جداً إذ تتحيز إلى التغير على حساب الثبات.
ومن قراءة الحال المصرية نستطيع أن نجرد قاعدة تقول إن الذكاء التاريخي الدائري لم يستطع أن يقاوم التحول الانقلابي على الصعيدين الحضاري والسياسي سواء في العصور الكلاسيكية، وبدت مقاومته ممكنة فقط على الصعيد الجغرافي الأكثر ثباتاً في التاريخ. وربما كانت هذه القاعدة هي الحاكم الأساس الذي يمكننا من تفسير الكثير من الملابسات والتحولات في ما بعد سواء لمصر أو العرب في تاريخهم الحديث، وهي التي تمكننا كذلك من تشوف مستقبل الرؤية المتشددة، والتي تبدو، وستظل عاجزة عن إعمال منطقها في التاريخ، لأنها تسير ضد مسارات الوعي وصيرورة الزمن، طالما استمرت متنكرة لقيمه الأساسية، التي تصوغ ذكاءه الجديد (الخطي)، أي العلم والحرية، بديلاً من طلب الوحدة الشكلية أو الموت اليائس.
صلاح سالم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد