من «المجتمع المدني» إلى «المجتمع الحيوي»
لماذا نعترض وندين التمييز بين الناس الوانا واجناسا، والتمييز الجندري بين المرأة والرجل، والتمييز مع المعوقين ومع فئة الشباب والشيوخ... ولا ندين التمييز بيننا وبين باقي الكائنات؟!
على اية قواعد يتم هذا التمييز، وعلى اية اسس تتم المطالبة بالمساواة؟
لماذا نتردد في قتل جرذ او صرصور ولا نتردد في الدوس على العشب؟
لماذا يمكن ان نشعر بالاشمئزاز اذا رأينا حية تأكل فأرا، بينما يمكن ان نشعر بالغبطة اذا شاهدنا حمارا يأكل عشبا؟
لماذا نشعر بالغضب اذا اكل الذئب نعجة، بينما نشعر بالارتياح والحماس اذا اكلت الماعز الربيع؟
لماذا نداعب الشتول والزهور وندللها اذا كانت في منزلنا، ونقطعها اذا كانت في الحقل؟
لماذا هناك جمعيات للرفق بالحيوان وليس هناك من يدافع عن النباتات ولا يرفق بها؟
ما الذي يجعلنا نهتم بالحيوانات الاليفة (الداجنة) ولا نعير اي اهتمام لتلك البرية؟
لماذا نتعاطف مع الهررة فندللها ونطببها ونكرمها، ولا نتعاطف مع الخراف والدجاج فنذبحها ونأكلها!؟
هل هو مبدأ المنفعة؟ هل هي غريزة البقاء التي تدفعنا وتوجه سلوكنا وأخلاقنا تجاه الآخر؟ ولكن الغريزة تطلب ولا تميّز. هل هو العقل؟ ولكن العقل لا يفرق، بل يوحّد ويجرّد ويربط.
هل مبادئ ومشاعر احترام الحياة تشمل فقط عالم الانسان والحيوان (بعض الحيوان) وتتوقف عند عالم النبات (مع التمييز في ما بينها ايضا)؟
فإذا كنا غير متأكدين اننا نشترك مع باقي الكائنات في «العقل»، هل لدينا شك، اننا نشترك معها في «المعاناة»!؟ هل نظرتم يوما في عيون حيوان وهو يذبح؟ هل تأملتم يوما في حيوان يعاني من المرض او الجوع او الفقدان؟
الا يكفي الشعور بالاشتراك بالمعاناة والامراض لكي يقرب بين الانواع، او لكي يدفعنا للبحث عن اخلاق جديدة بين ـ نوعية، او اخلاق عابرة للنوع الانساني، تماما كما اصبحت الامراض الحديثة (المشتركة بين الإنسان والحيوان) من جنون البقر الى انفلونزا الطيور... امراضا عابرة للنوع والحدود؟
هل لان الحيوانات الداجنة اصبحت اعضاء في المجتمع المختلط، وتلك التي في البرية ليست عضوة، يفترض ان نعاملها وفقا لقواعد اخلاقية مختلفة؟
ولكن الحيوانات البرية هي اعضاء في المجتمع الحيوي، وهي جزء من النظام الايكولوجي الاكبر الذي نعيش فيه ومنه جميعا. الا نعيش جميعا في نظام متكامل، حيث تستمد النباتات خضارها من الشمس فتأكلها الحيوانات، وتنتقل من حيوان الى آخر ضمن السلسلة الغذائية المعروفة والتي تقوم على التغذي المتبادل، والتي تعتبر السمة الاساسية للحياة في المجتمع الحيوي؟
فإذا أردنا اليوم أن نبحث في اصل اخلاقنا، وفي اصل التمييز الذي نمارسه في حياتنا اليوم، علينا ان نعود الى حياتنا البدائية (بمعنى البدايات) حيث كنا نتشارك مع عالم الحيوان والنبات العيش في مجتمع واحد. لقد عاش النوع الانساني ملايين السنين دون انفصال او تمييز مع باقي الكائنات، قبل ان يصبح الكلب (على سبيل المثال) شريك الإنسان الصياد، ثم شريك ورفيق الانسان الراعي... حتى الثورة الزراعية في العصر الحجري الحديث التي تم الاستعانة فيها بمجموعة كبيرة من حيوانات العمل والزراعة والرعي مثل البقر والحمير والخنازير والفيلة والجواميس والجمال والبغال... الخ
ولكن في تلك المراحل نفسها، لم تكن النباتات اقل شأنا. فكيف يمكن تخيل صياد من دون ادوات الصيد النباتية، وراع من دون عصاه وحجارته، ومزارع من دون بذوره وبذاره وادوات الفلاحة؟
فاذا راجعنا القواعد التي كانت تحدد علاقتنا مع العالم غير البشري، نجد انها انطلقت من الشعور بتبادل المنفعة ودوافع البقاء، تحت سقف العيش في مجتمع واحد، هو المجتمع الحيوي الذي يضم الكائنات كافة. وما اصول مشاكلنا الكبرى اليوم من تغير مناخ وامراض معولمة سوى ثمن ذلك الانفصال التاريخي لتأسيس مجتمع بشري مستقل، الذي بتنا نسميه اليوم «مجتمعا مدنيا»، قائما على الإفراط في استغلال باقي الكائنات، والافراط في النزعة النفعية، التي تتعدى دوافع البقاء الطبيعية.
من الواضح ان الاخلاق التي تحكم علاقتنا مع بعضنا ومع باقي الكائنات، تتسم بالنفعية او بالنظرة المتمركز بشريا، باعتبار انفسنا المركز ومصدر ومرجع ومعيار النفع. ولعل كل المطلوب اليوم تغيير المعيار الذي يحدد المنفعة والمصلحة. فالافعال يمكن ان تصنف بالخيرة والشريرة تبعا لتأثيرها على النظام الايكولوجي كله، على المجتمع الحيوي وليس على المجتمع المدني وحده. فإذا كانت المصلحة العليا في ما مضى هي مصلحة المجتمع الحيوي او مصلحة القبيلة، وليس النوع او العضو الفرد في القبيلة... ثم «تطورت» لتصبح مصلحة المجتمع الإنساني «المدني»... فمن اجل المصلحة نفسها اليوم (في البقاء والمنفعة) التي باتت مرتبطة بالمجتمع الحيوي الكلي الذي يضم غيرنا من الكائنات... علينا ان نعيد النظر بأخلاقنا.
فهل من العدل ان نصل الى «مجتمع مدني» حقق المساواة الاجتماعية والعرقية والجنسانية ، لكنه لا يزال يتسم بالتمييز والاستغلال البيئي؟
واذ بتنا اليوم في عالم واحد، محكوم بتغير المناخ، وأي نشاط إنساني كبير (حضاري) في أية بقعة من الارض يؤثر على أية بقعة أخرى في هذا الكوكب الهش، الذي بات يعاني من امراض مشتركة وعابرة للحدود والانواع ايضا... فنحن امام خيارين لا ثالث لهما، اما ان نعيد النظر في المنظومات الاخلاقية المسيطرة، ام يجب توسيعها لتشمل باقي الكائنات. وهذا ما يتطلب قاعدة حقوقية مختلفة تماما، لم يبحثها القانونيون والمشرعون بعد.
حبيب معلوف
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد