سوق الجوال..تشتري هاتفاً وبخفة غير عادية تستلم آخر
منذ ولادتها في بلدنا، تعيش حركة الهواتف الجوالة في «السوق السوداء» النشاط في البيع والشراء ضمن الشريحة الكبيرة من مستخدميها بالتوازي مع الضخ المستمر من الجانب الآخر لكميات كبيرة من هذه الأجهزة الجديدة والمتطورة في السوق المحلية
ويعتبر الارتفاع النسبي لأسعار الأجهزة الحديثة – وعدم قدرة المولعين بتبديل أجهزتهم بين وقت وآخر على تحملها - أحد أهم الأسباب التي تدفعهم إلى الدخول في معترك هذه السوق، وهم يعرفون تمام المعرفة أنهم سينالون جوالات رخيصة الثمن بالفعل، لكنها مجهولة الأعماق في كثير من الأحيان ولا تخلو في معظمها من العيوب والنواقص. ويبقى الحظ الممزوج بذكاء الباعة اللاعب الأكبر في هذه السوق التي تحتضن يومياً سيلاً من الجوالات المستعملة القادمة لا نعرف من أين؟ والذاهبة لا ندري إلى أين؟
من منا لم يزر أو يسمع عن سوق الجوالات المستعملة القائمة على أرض سوق الهال القديم والملقبة حالياً بـ«سوق الحرامية»؟ وهي بالطبع تسمية دارجة لا نتفق عليها وكثيرون لأنها سوق معروفة يؤمها الناس والباعة الشرفاء الذين أتوا إليها لكسب رزقهم بدءاً من بائع الخضار الذي يقف ساعات طوال أمام محصوله المتواضع وانتهاءً بأصحاب محال قطع الالكترونيات والكهربائيات ومراكز البيع الكبيرة الأخرى.
- لا يخفى على أحد عند دخول السوق ذلك التفاوت الملحوظ في مستوى الباعة.، بعضهم قام بافتتاح مركز كبير لتقديم جميع خدمات الهاتف الجوال المستعمل من البيع والشراء إلى تقديم خدمات الصيانة وفك الأقفال وتحميل النغمات والصور وتبديل الاكسسوارات و.... وآخرون قاموا باستئجار جزء صغير جداً مقتطع من أحد المحلات الموجودة في السوق سابقاً مقابل 40 أو 50 ألف ليرة سورية شهرياً كما قال لنا بعضهم. كما أن الحياة ابتسمت لبعض أصحاب المحلات الواسعة الذين خبروا بحق كيفية الاستفادة من المساحة التي يمتلكونها على أكمل وجه، فقاموا بتأجير طاولات صغيرة (بسطة) لعدد من الراغبين بممارسة هذه التجارة حيث لا تتجاوز مساحة الطاولة الواحدة منها نصف متر مربع مقابل 15 ألف ليرة سورية شهرياً، وهو ما أدى إلى استنساخ المحل الواحد إلى عدة محال يصطف فيها كل عامل وراء طاولته جنباً إلى جنب مع زملائه حتى تظنهم أحياناً ملتصقين كالتوائم السيامية.
وسيم الذي لم يجد في جيبه 15 ألف ليرة شهرياً كثمن لاستئجار طاولة (بسطة)، قرر فرش صندوقه الكرتوني الفارغ على الأرض ناثراً فوقه ثروته المتواضعة التي لاتتجاوز عشرة جوالات. من ناحيته، آثر مصطفى الذي يبلغ رأسماله خمسة أو ستة جوالات حمل بضاعته للطواف بها بحثاً عن زبائن محتملين، وكنا من الزبائن الذين يبحث عنهم. وبعد حديث مقتضب عن الأسعار التي يطلبها مقابل كل هاتف جوال قال مصطفى: إن هذه «الشغلة» تأتي في المرتبة الثانية بعد وظيفته الحكومية، وأن عدة صفقات يجريها في هذه السوق شهرياً كفيلة بأن توفر له مبلغاً مالياً يساوي أو يزيد أحياناً عن راتبه الشهري القصير الأجل الذي لا يعيش في جيبه أكثر من أسبوعين ونيف!!. ويقول مصطفى إن تجواله مع جوالاته يكفل له التواري مباشرةً تفادياً لحصول خسائر عند قدوم المختصين بمحاربة هذه «الرزقة». ولا يختلف حال «أبو جوان» كثيراً عن زميله مصطفى سوى أنه غير موظف، وكان الكساد الذي أصاب عمله في مجال التمديدات الكهربائية المنزلية في الوقت الراهن - التي تمر على ما يبدو في فترات «تقنين» غير معلنة – قد دفعه إلى حمل ثلاثة جوالات فقط بيمينه وحفنة من الفستق يأكلها بيساره وكله أمل في بيع ما بيمينه قبل أن يفرغ من أكل كل ما بيساره.
- عند الوقوف أمام أحد المحال الصغيرة (المستأجرة) والتي لا تتجاوز مساحتها المترين ندرك مباشرةً أهمية هذا المكان «الضيق» لما لا يقل عن أربعة أشخاص يعملون فيه، أي لما لا يقل عن أربع أسر تعتاش من مبيعاته. وعن طبيعة وحجم عمل المحل يحدثنا سعيد عن بيع الجوالات المستعملة من كافة الأنواع ولجميع الراغبين، ويتابع: «نحاول في عملنا هنا إرضاء رغبة كل الزبائن ولذلك فإننا نعرض مجموعة واسعة جداً من الجوالات المستعملة المتطورة والعادية، وجميعها رخيصة الثمن بالمقارنة مع مثيلاتها التي تباع خارج هذه السوق».
وبالفعل يمكن لأي كان شراء أي هاتف جوال مستعمل أرخص بألف ليرة من نظيره الذي يباع وراء واجهات الزجاج في محلات خارج السوق.
وعند الوقوف بين البائع والزبون لسماع الحوار الذي يدور بينهما خلال عقد الصفقة، لا تلبث أن تمتلئ آذاننا بعبارات المديح والترغيب بـالجوال المراد بيعه، ليظن كل من يسمع ويرى أنه يقف أمام «الهاتف العجيب» الذي لم يصنع سوى نموذج واحد منه في الوجود، وليتم بعد ذلك سراً «اغتيال» المصمم الذي أخرج هذا الجوال الفريد إلى الوجود كي لا يصنع منه اثنين!!!. إلا أن كل هذه المجاملة لا تدوم سوى لبرهة من الزمن حتى سماع السعر الزهيد للجوال مقارنة بمواصفاته في مكان آخر على سطح الأرض، وعندما ينوي الزبون إعادة الجوال إلى البائع في حال تعطل دون سبب وجيه لا يلبث هذا البائع أن يتراجع عن كل ما سلف ذكره ويقول: «أنا لا أردّ المباع، وقد استبدله بآخر مع فرق السعر وغير ذلك فلا..». وتعتبر العبارة السابقة بمثابة الصفعة التي أخرجت الزبون من حلمه الوردي، وكان حاله أشبه بحال سندريلا الجميلة عندما استفاقت من حلمها القصير الذي عاشته لدقائق مع الأمير، قبل أن تتحول أحصنتها إلى جرذان، وعربتها إلى يقطينة، وحذاؤها إلى خف رث مهترئ.
أما زياد فقد ضحى بجواله الثمين الذي يرافقه في جيبه منذ سنوات واستبدله بجوال آخر مع فارق مالي بسيط، ليس طمعاً بالمبلغ -على حد تعبيره- وإنما رغبة في تجديد سحنة جهازه الرفيق بعد أن سئم مؤخراً حمله أو حتى النظر إليه.... وعندما سؤاله عن مدى ثقته بجودة الجهاز الذي حصل عليه في عملية المقايضة يقول إن مجيئه إلى عند هذا البائع كان بناء على توصية من أحد أقرباء البائع نفسه وهو ما يضمن له الحصول على جهاز جيد.
وفي سؤال لأحد أصحاب المحلات عن ثقته بمصدر الجهاز الذي يشتريه أو يقايض به أحد الزبائن يقول:«نحن الباعة لا نهتم بكل ما يمكن أن يشوب مصدر الهواتف الجوالة التي نتعامل بها، ونعتبر الزبون بمثابة المالك الحقيقي للجوال الذي يحمله بين يديه ولا نطلب منه ثبوتيات لذلك، فهناك من يقوم بهذه المهمة على أكمل وجه».
وأضاف: «أوضاع عملنا لا تتحمل التدقيق والتمحيص كثيراً مع الآخرين لأن العمل يجب أن يسير بسرعة، وليس لنا أي مصلحة بأن ينفر الزبون من التعامل معنا سواء كان يريد بيع أو شراء أحد الأجهزة. وفي المقابل لا يطلب البائعون أي ثبوتيات بملكية الجهاز من الزبون الراغب في بيع ما لديه وهكذا تسير الأمور على خير ما يرام ما عدا عملية التأكد من مدى سلامة الجهاز الذي نشتريه أو نقايض به الآخرين».
«الهمس».. طريقة مبتكرة في عالم التسويق
في «سوق الحرامية»، وبعيداً عن النداءات الصاخبة لباعة الهواتف الجوالة، الجوالون بدورهم، في منأى عن الأحاديث الساخنة التي تولد بين البائع والزبون، نتفاجأ بأحدهم عند مدخل السوق يهمس بالقرب من أذنيك وبشيء من الخجل (موبايل للبيع). صوت خافت تكاد لا تسمعه وإن سمعته لا تفهمه، وإن فهمته فستستغربه، وبصراحة لن يتجرأ أي زبون على التعامل مع «رجل الهمس» هذا، لأنها ليست طريقة مقنعة للبيع، عدا أن زائري السوق يعرفون أن أسلوبه يخالف التقاليد التسويقية المتبعة في «سوق الحرامية». ونغتنم هذه الفرصة لنتوجه إلى الشرفاء في «سوق الحرامية» ليحثوا زميلهم «رجل الهمس» على ممارسة مهنته بالصوت العالي كما يستخدمه الباقون دون خجل أو تردد.
- لعل حديثنا مع البائع الجوال سومر الذي يقطن في السومرية ساعدنا على إمساك بعض الخيوط التي تقود إلى معرفة سبب تسمية سوق الهال القديم «سوق الحرامية»، حيث كشف لنا أن خفة اليد التي يتمتع بها بعض الباعة الجوالين هنا تجعلهم قادرين وبسهولة على إخفاء الجهاز الذي يفاوضون الزبون عليه فيقومون باستبداله بجهاز آخر مماثل له تماماً لكنه عديم الفائدة وليس قادراً حتى على إجراء مكالمة واحدة. وكم من المرات التي يعود فيها المشتري إلى السوق يبحث عن اللص الذي باعه جوالاً أجوف فارغاً من كل شيء إلا من بعض الأوزان المثبتة بداخله تجعله يبدو سليماً. وهذا ما تمت تسميته بالإجماع موبايل «تلبيسة» أي إن البائع يقوم بإلباسه للزبون الساذج.
- قام محمد الرفاعي بتأجير جزء صغير من دكانه الواسع مقابل مبلغ جيد من المال، ويقول إن محله الواسع يسمح له بالاستغناء عن جزء أو أجزاء منه دون أن تتعرض مصالحه للضرر لأن مبيعاته لا تتعارض مع المستأجرين مع العلم أنه يعمل في مجال الأدوات والأجهزة الالكترونية والكهربائية مع أخذ الاختلافات بين الطرفين بعين الاعتبار.
دعم «سوق الحرامية» ضرورة اقتصادية
قد تختلف الآراء حول دعم أو محاربة هذا النوع من الأسواق المنتشرة في معظم بلدان العالم. حتى إن أي مدينة أو منطقة في العالم تكاد لا تخلو حقيقةً من نموذج مشابه لـ«سوق الحرامية» الموجود في مدينة دمشق. وهنا بيت القصيد، لأن القيام بعملية جرد قياسية تقريبية بسيطة بغض النظر عن دقتها سرعان ما تتكشف لدينا أرقام مهوولة عن عدد الباعة والمشترين والوسطاء وأصحاب المحلات المستفيدين من حراك هذه السوق، ونرى في هذا الأمر مساهمة جزئية منها نحو تقليص نسبة البطالة التي يطارد شبحها كل المواطنين وحكوماتهم أينما كانوا على وجه الأرض. وكما قلنا في البداية فإن المحل الصغير الذي يعمل فيه أربعة رجال هو في الحقيقة مصدر الرزق الأساسي لعائلاتهم الأربع ولنقس على ذلك. من ناحية أخرى أضحت هذه الأسواق مكاناً حقيقياً لإعادة تدوير الجوالات المنتهية الأجل والمحكوم عليها بالرمي في القمامة، ويؤكد لنا الكثيرون أن الجهاز الذي لم يعد قادراً على العمل سيجد في هذه الأسواق من يفككه قطعة قطعة وبأسلوب لا يخلو من الحرفية ليجد فيه عشرات القطع التي يمكن استعمالها بعد تركيبها على جوالات أخرى. كما أن الأسعار التي توفرها هذه السوق لا تعطيها أماكن أخرى. وفي قضية إصلاح الجهاز دون الحاجة إلى الاستغناء عنه وشراء جهاز جديد، عند هذه النقطة بالذات نلمس وجود حد من النزيف الحاصل في الخاصرة الاقتصادية للمجتمع الذي يدفع الثمن الكامل للتكنولوجيا التي تصل إليه في الوقت الذي لا يستعمل منها سوى 40% كحد أقصى. وفي هذا الأمر إسكات مؤقت لشراهة الشركات الساعية إلى توسيع رقعة استهلاك منتجها قدر المستطاع. ولا يختلف اثنان على وجود متسللين في هذه الأسواق بقصد بيع جوالات ذات مصادر مشبوهة بأي ثمن للتخلص من أعباء الاحتفاظ بها لمعرفتهم مسبقاً بالجهود الكبيرة التي تبذلها الجهات المختصة في مكافحة هذا النوع من السرقة...
ولكي لا يذهب الصالح بالطالح نرى أنه من الأفضل رؤية القضية من جميع جوانبها للتمييز بين إيجابياتها الكثيرة وسلبياتها المحدودة.
حسان هاشم
المصدر: الوطن السورية
التعليقات
الى من يهمه الأمر
إضافة تعليق جديد