الحياة الاجتماعية في المدينة العربية الإسلامية

17-01-2009

الحياة الاجتماعية في المدينة العربية الإسلامية

في إطار مفهوم السياسة الذي عرفه المسلمون في العصور الوسطى، يظهر جلياً أن الحديث عن الحياة الاجتماعية في المدينة العربية الإسلامية، يتصل مباشرة بالحياة السياسية والاقتصادية والفكرية. وقد اختلفت هذه السياسات من مدينة إلى أخرى، ومن عصر إلى عصر. ولا شك في أن السياسة الداخلية من أبرز العوامل التي تؤدي إلى انصراف السلطة إلى الإصلاحات الاجتماعية والعناية بالمرافق العامة وتحقيق الرفاهية الاجتماعية للشعب، كما أن الصراع السياسي غالباً ما يؤدي إلى صراع اجتماعي يفتت وحدة المجتمع.
فقد ارتعدت حياة بغداد، أثناء صراع الأمين والمأمون، وتمزّقت مدن الأندلس، وتهاوت واحدة تلو الأخرى نتيجة صراع ملوك الطوائف، واختلّت حياة القاهرة في العصر العثماني، تأثراً بما وقع بين الأمراء من اضطرابات وحروب، في حين ازدهرت المدن بصفة عامة في فترات الاستقرار والأمن وامتد عمرانها، وزخرت حياتها بألوان الترف ومباهجه، وانسحب ذلك على القاهرة التي ظلّت مركز مدن العصور الوسطى حتى نهاية العصر الملوكي لتحتل مكانها اسطنبول عاصمة الدولة العثمانية، وازدهرت قرطبة في عهد الخلافة الأموية في الأندلس وبلغت مكانة بغداد والقاهرة وظلت كذلك إلى أن دب فيها الضعف في عهد ملوك الطوائف، وسقطت عام 1492م.
وخضعت الحياة الاجتماعية للمدن الإسلامية لمؤثرات عدة منها الأحوال الاقتصادية، ويكفي أن نشير إلى التحول الذي طرأ على مدن الأنصار بعد توجه سياسة الأمويين نحو الاعتماد على الزراعة كمصدر ثابت للدخل في هذه المدن، وما تبع ذلك من سياسة بناء الأسواق والمنشآت التجارية التي تساير هذا التطور الذي اتسع نطاقه أكثر فأكثر في العصر العباسي، عندما أحدثت سياسة العباسيين طوراً آخر في الحياة الاقتصادية للمدن، خصوصاً بعد زيادة الاهتمام بالتجارة وتكثيف النشاط الزراعي وتوسيعه ما نقل حياة المدن نقلة مهمة ارتبط بها ظهور الأصناف والحرف كتكوينات اجتماعية لعبت دوراً بارزاً في الحياة الاجتماعية في المدينة الإسلامية.
ويرتبط الازدهار الاقتصادي للمدن ارتباطاً أساسياً بسياسة العمران، وإنشاء المدن، واختيار مواقعها وتخطيط مواضعها تخطيطاً يكفل تكامل المرافق ورخص الحياة في المدينة، ما يجذب الناس، فيتوسع عمرانها.
كذلك أثرت الحياة الدينية والفكرية تأثيراً واضحاً في الحياة الاجتماعية، لا سيما أن الدين الإسلامي ينظم حياة المجتمع في أدق تفاصيلها، فهو يشكّل الإطار العام لسلوك المجتمع داخل المدينة، حتى أن المدينة وسمت بالصفة الإسلامية انطلاقاً من هذا الأثر.
وصاحب ذلك مظاهر علمية وفكرية، كانت بدايتها سياسة التعريب الأموية، التي هيأت المناخ الجيد لانتشار العربية بين شعوب الدول المفتوحة، وما تبع ذلك من اهتمام أبناء هذه الشعوب بالعلوم الإسلامية واللغوية حباً في مضاهاة العرب، الذين حاولوا التركيز على أفضليتهم بما اكتسبوا من اللغات وعلوم الدين.
وفي العصر العباسي، كان الانفتاح على الثقافات القديمة بالترجمة التي سرعان ما أتت أُكلها عندما استوعبها المسلمون، واستفادوا منها وعدلوا فيها وطوروها، لتبدأ النهضة العلمية الإسلامية في المدن المختلفة، تلك النهضة التي ارتبطت فيها بازدهار الدولة الحاكمة ورعايتها.
ومن المظاهر التي أثرت في الحياة الاجتماعية للمدن، اختلاط الأجناس أحياناً في بعض المدن، خصوصاً في الفترة الأولى التي انتشر فيها الإسلام، وما تلى ذلك من الاعتماد على هذه الأجناس، كاعتماد العباسيين على الفرس ثم على الترك، وما تبع ذلك من سيادة العنصر التركي الذي امتد سلطانه حتى وصل إلى الحكم في كثير من بلدان العالم الإسلامي ابتداءً من العصر العباسي، وانتهاءً بالعصر العثماني. وكان لذلك أثر من الناحية الاجتماعية، حيث تحطّم النظام القبلي الذي قام على أسسه المجتمع العربي، فترى معظم الخلفاء العباسيين يختارون زوجاتهم وأمهات أولادهم من الفارسيات والتركيات، حتى أنه من بين الخلفاء العباسيين، لا نجد إلا ثلاثة فقط من أبناء الحرائر وهم: بو العباس والمهدي والأمين.
وامتد الأثر إلى العادات والتقاليد التي تأثرت بهذه التيارات المختلفة المصادر، وبقيت اللغة العربية سيدة الموقف، بل أنها فرضت نفسها على الفرس وغيرهم، فقد اقتبست الفارسية ثلث ألفاظها من العربية، وساعد على ذلك أنها لغة القرآن الكريم.
وبصفة عامة يمكن تقسيم الحياة الاجتماعية في المدينة الإسلامية تقسيماً رئيساً، يتبع تقسيم طبقات المجتمع إلى طبقة حاكمة من الخلفاء والسلاطين والحكام والوزراء والأمراء، وطبقة العامة التي تتدرج مستوياتها في فئات مختلفة تضم التجار ورجال الدين وأهل العلم، وأصحاب الحرف والفلاحين وغيرهم.
وتمثّل القصور الخاصة وعاء الحياة الاجتماعية للطبقة الأولى، بما يتبع فيها من تقاليد تختلف من دولة إلى أخرى، وأحياناً من حاكمٍ إلى آخر، ولكن هذه القصور عاشت ألواناً من التراث واللهو وضمت مجالس للعلماء والشعراء الذين يُستأنس بهم، ومخطوطات مصورة تزخر بها اليوم مكتبات العالم.
لقد انعكس تطبيق القواعد الإسلامية الاجتماعية، انعكاساً مباشراً على الحياة الاجتماعية في المدينة، وأولى هذه القواعد وأهمها هو المبدأ الذي ورد في حديث رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) وهو «لا ضرر ولا ضرار»، وهذا المبدأ حكم إلى حد بعيد التخطيط المادي للمدنية الإسلامية، حيث إن الفقهاء حددوا مظاهر الضرر المادي الناتج من تفاعل النشاطات داخل التكوينات المعمارية للمدينة الإسلامية، فاعتُبر الدخان الضار والرائحة الكريهة والصوت المزعج، ثلاثة مظاهر تسبب الضرر للآخرين إذا زاد عن الحد المحتمل الذي قدّرته الأحكام الفقهية، وتطبيقاً لمنع هذا الضرر في تخطيط المدينة الناشئة، وجب إبعاد المنشآت التي تتسبب في ذلك، كأفران الفخار والجير والمدابغ والصناعات التي تصدر صوتاً مزعجاً، عن الوحدات السكنية التي تشغل القطاع الأكبر من حيّز المدينة.
وفي إطار مبدأ « لا ضرر ولا ضرار» تأتي ظاهرة الخصوصية، التي أثرت تأثيراً واضحـاً في الحيـاة الاجتماعيـة للمدينة الإسلامية، وبالتالي في تكويناتها المعمارية المختلفة، فقـد حـددت التعـاليم الإسلاميـة نظام الحياة الأسرية بما يحفظ الحرمات والعرض. فأخـذ طابــعـها بمرور الزمن سلوكاً عاماً حرص عليه السكان حرصاً شديداً، وأصدر الفقهاء أحكامهم التي تدعم الخصوصية، وطبقها القضاء، ولم يتسامحوا في كشف حرمات المنازل بالنظر من أبوابها أو أثناء المرور في الشوارع. أو من خلال الاطلاع على المنازل المجاورة من الأسطح والكوى التي تكشف بيوت الآخرين.
من خلال هذا العرض السريع لجوانب الحياة الاجتماعية في إطار المنظور المادي للمدينة الإسلامية، باعتبارها الوعاء الذي يشمل كل نـشاطات الحيــاة فيها تتضح ملاءمة التكوينات المادية للمدينة الإسلامية وتخطيطاتها لممارسة نشاطات الحياة الاجتماعية، ومدى تأثر التخطيط بتلك الجوانب التي تحكم الحياة الاجتماعية في المدينـة الإسلامية.
لقد تبين من خلال مراحل التطور التي مرت بها المدن الإسلامية، أنها كانت في مراحلها الأولى وعاء لتجربة مثيرة في جمع مجتمعات قبلية. في إطار واحد، واستطاعت أن تجتاز هذه التجربة بتذويب النزعة القبلية وإبراز معايير جديدة منبثقة من نتاج التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي مر به المجتمع الإسلامي في المدينة في مراحلها المختلفة.

أنيس الأبيض

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...