وفاة البطريرك اليكسي الثاني رئيس الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية
لم يكن الكاهن ميخائيل ريديغير ليتصوّر أن يصبح ابنه ألكسي، ذلك البطريرك الذي يدين له الأرثوذكس الروس بإعادة الاعتبار المعنوي لكنيستهم بعد ٧٠ عاماً من الحكم الشيوعي. وبالأمس، عمّ الحداد الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لرحيل رئيسها، الذي توفي عن ٧٩ عاماً، مختتماً حياة عاصر خلالها أكثر الأحداث خطورة في تاريخ روسيا. وفيما لم تعلن الكنيسة في حزيران من العام ،١٩٩٠ وفي خضم التحولات التي شهدتها المنظومة الإشتراكية في العام، أمسك ألكسي ميخائيلوفيتش ريديغير عصا البطريركية بعد انتخابه خلفاً للبطريرك بيمن الأول، ليفتح صفحة جديدة في تاريخ الكنيسة الارثوذكسية في روسيا، حتى أطلق عليه كثيرون لقب »بطريرك البريسترويكا« في إشارة الى الإصلاحات السياسية التي مهدت لانهيار الاتحاد السوفياتي.
وليس من قبيل المبالغة القول أنّ انتخاب ألكسي الثاني جاء بمثابة »الولادة الجديدة« للكنيسة الارثوذكسية الروسية، التي استعادت معه حضورها السياسي والاجتماعي، بعدما حصلت على امكانية ممارسة نشاطاتها الدينية والتعليمية والخيرية.
وعلى مدى ١٨ عاماً عرفت الارثوذكسية في روسيا مجداً لم تعرفه إلا منذ عهد القياصرة. عشرات الأبرشيات الجديدة أنشئت خلال عهده، فيما أعيد بناء آلاف الكنائس والأديرة، إلى جانب افتتاح أكثر من مئة معهد ديني. أمّا الانجاز الأكبر الذي ينسب إليه فهو إعادة توحيد شقي الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في الداخل والخارج في أيار من العام الماضي، في خطوة تاريخية وضعت حداً لانقسام دام ٩٠ عاماً.
ولد ألكسي الثاني في العاصمة الاستونية تالين في ٢٣ شباط .١٩٢٩ تلقى دروسه في معهد اللاهوت في لينينغراد (سانت بطرسبرغ) حتى العام ،١٩٥٠ حين رسم كاهناً، ليعين بعد ١١ عاماً أسقفا على أبرشية تالين. تولى مناصب كهنوتية عديدة أبرزها رئاسة لجنة العلاقات الخارجية في الكنيسة الروسية.
ومنذ العام ١٩٦٠ انخرط ألكسي الثاني في الجهود الرامية إلى توحيد الكنائس، فدخل في حوارات لاهوتية مع إنجيليي ألمانيا، كما ساهم في تأسيس »مؤتمر الكنائس الأوروبية« الذي تولى رئاسته بين العامين ١٩٨٧ و.١٩٩٢ ولكن رغم ذلك، بقيت علاقة الأرثوذكس الروس بالكنيسة الكاثوليكية متسمة بالبرودة، ذلك أنّ الكسي الثاني رفض مرارا مقابلة البابا السابق يوحنا بولس الثاني وخلفه بندكت السادس عشر، متهماً روما بمحاولة »كثلكة« روسيا، وذلك رغم التقارب الذي شهدته الكنيستان في السنوات الثلاث الماضية.
ولعل أكثر الفصول غموضاً في حياة ألكسي، كان مسألة انخراطه في الاستخبارات السوفياتية، وهو أمر تنفيه الكنيسة الأرثوذكسية بشدة. لكن الباحثين الروسيين غليب ياكونين ويفغينيا الباتس، اللذين أتيح لهما الاطلاع على أرشيف الـ»كي جي بي«، فإنّ الكسي قد خدم في هذا الجهاز لأكثر من ٤٠ عاماً تحت اسم حركي هو »دروجدوف«، تحت أمرة الضابط نيكولاي باتروشيف، حيث تمكن من »تهدئة« انتفاضة للكهنة في أستونيا.
وفيما تنفي الكنيسة الأرثوذكسية الروسية هذه المزاعم، يشير رئيس مجلس العلاقات الخارجية في الاتحاد السوفياتي السابق قسطنطين خراتشيف الى أنه في تلك الفترة »لم يكن لأحد أن يتبوأ منصباً أسقفياً، أو أي منصب آخر في السينودس المقدس، ما لم يحظ بموافقة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتية وجهاز الاستخبارات«.
حظي ألكسي، ذو اللحية البيضاء والصوت الرخيم، باحترام كبير بين الروس، وكان حضوره قوياً على الساحة السياسية والإعلامية، فيما كانت الاحتفالات الدينية التي يرأسها محجة لمعظم المسؤولين الروس، وفي مقدمهم الرؤساء الثلاثة الذين تعاقبوا على حكم روسيا، الذين كانوا يحرصون على التقاط الصور إلى جانبه.
ولعل أبرز دليل على مدى حضور الكسي الثاني في الحياة السياسية، كان الوساطة التي قام بها بين الأطراف المتنازعة في الأزمة السياسية في روسيا في العام .١٩٩٣ وعشية الانتخابات الرئاسية في ،١٩٩٦ التي شهدت منافسة حامية بين الرئيس الروسي بوريس يلتسن وزعيم الحزب الشيوعي غينادي زيوغانوف، حذر الكسي الثاني من عودة الشيوعية، داعيا الروس الى القيام بـ»الخيارات الصائبة«، وقد ظل قريباً من يلتسين ومن ثم خلفيه فلاديمير بوتين وديميتري ميدفيديف، مستخدماً علاقاته مع السلطة من أجل تعزيز نفوذ كنيسته.
كذلك طرح مبادرة للسلام في النزاع الأرمني ـ الأذري، كما في مولدافيا وشمالي القوقاز والبلقان والشرق الأوسط. وعارض غزو العراق، كما دعم الأرثوذكس في كوسوفو، حيث اعتبر انفصال الإقليم عن صربيا »حدثاً منافياً للتاريخ«.
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد