إسرائيل تعتمد سياسة الجريمة المنظمة
لم تكن المجزرة الدموية الصهيونية الأبشع التي اقترفتها قوات الاحتلال يوم الجمعة 9/6/2006 على شاطئ غزة وأسفرت عن محو أسرة فلسطينية كاملة من الوجود سوى تتويج سافر لفكر ومخططات ونوايا الإرهاب المجازري الإجرامي الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني.
فما الذي يجري على أرض فلسطين في الضفة والقطاع؟.. هل كانت قصة المفاوضات من بداياتها إلى يومنا هذا عبارة عن أكذوبة كبرى ونصب سياسي على العرب كما كان أعلن مرة الأمين العام للجامعة العربية؟
وهل كانت قصة "فك الارتباط" والانسحاب من غزة يا ترى مسرحية محكمة الإعداد لتهيئة الأجواء والمناخات المحلية والدولية لإعادة الاحتلال الصهيوني للقطاع من جديد تحت ذريعة الإرهاب وسلاح الفصائل وصواريخ القسام؟
هكذا بعد أن غمرت أفراح" الاندحار والانتصار" الشارع الفلسطيني وبعد أن بشرت ابتسامات الأطفال وآمالهم بغد فلسطيني مشرق تنتكس الأوضاع مجددا إلى بدايات المواجهات والاجتياحات والاغتيالات والدماء والأكفان.. أى "أول الغيث" الصهيوني متجددا في عهد أولمرت الشاروني في حملة جديدة من المجازر والجرائم.
وهذا ما يحملنا هنا مرة أخرى إلى قراءة الجذور الأدبية الإيديولوجية والسياسية الإستراتيجية للمجزرة ومعرفة الأجندات السياسية الحقيقية وراءها.
فالحقيقة الواضحة الساطعة الراسخة اليوم أن الحديث عن جرائم الحرب والمجازر الصهيونية لا ينفصل من جهة أولى عن الحديث عن مشاريعهم السياسية الإستراتيجية التصفوية للقضية والحقوق العربية الفلسطينية التي تتوج اليوم بما يسمى خطة "الانفصال والتجميع" التي يعلن أولمرت صباح مساء "أنه سينفذها سواء بالتفاهم مع الفلسطينيين أو بدونهم".
كما لا ينفصل من جهة ثانية عن الحديث عن تلك الأدبيات والمفاهيم والمنطلقات الأيديولوجية التي شكلت على مدى العقود الماضية المستنقع المستنبت الذي نشأت وترعرعت فيه التنظيمات الإرهابية الصهيونية, ونشأ وترعرع وصقل في أتونه كبار الإرهابيين الصهاينة من جنرالات وساسة ومفكرين ومنظرين على حد سواء.
في ذلك اللقاء الذي أجراه معه الكاتب والصحافي الإسرائيلي المعروف عاموس عوز، ونشرته صحيفة دافار العبرية في 17/9/1982، ثم ترجم إلى الفرنسية وصدر عن دار "كالمان ليفي" تحت عنوان "أصوات إسرائيل" تحدث البلدوزر الإرهابي شارون بمنتهى الوضوح عن أدبيات المجزرة التي أسماها "المهمات القذرة" وأطلق الكاتب الإسرائيلي على الحوار مصطلح "المانيفستو النازي لشارون".
يوضح عوز في تقديمه للحوار أن "اعترافات شارون في اللقاء المانيفستو تعكس إيمانا نازيا يعلنه شارون صراحة، حيث أعرب عن رغبته بأن يطبق على الفلسطينيين ما فعله هتلر باليهود خلال الحرب العالمية الثانية ويأسف لأن ذلك لم يحصل عام 1948.
ويضيف "إن هذا المانيفستو لا يلخص فقط الأيديولوجيا الصهيونية إزاء الفلسطينيين بل تجاه يهود العالم، حيث يوضح شارون ضرورة تحفيز عملية تهجير مزدوج، تهجير الفلسطينيين من فلسطين وتهجير يهود العالم إليها -المانيفستو اليهودي- النازي لشارون".
ويكثف لنا شارون من جهته معتقداته وأفكاره ومشاريعه في فلسطين في ذلك "المانيفستو" قائلاً "أنا لا أعرف إلا شيئا واحدا، طالما أننا نقاتل لأجل وجودنا، فكل شيء مسموح. حتى ما هو غير مسموح به عرفا، حتى طرد العرب جميعاً إلى الضفة الشرقية للأردن. كلهم قطعيا".
ويفصح شارون في اللقاء عن نواياه الإجرامية الشريرة ضد الشعب الفلسطيني قائلاً "اليوم.. أنا مستعد أيضا لأجل الشعب اليهودي بأن أتكفل بتنفيذ العمل القذر، باقتراف مجازر عربية حسب الحاجة، بأن أطرد، أحرق وأنفي كل ما يجب لجعلنا مكروهين. مستعد لأن ألهب الأرض تحت أقدام "يديش الديا سبورا" إلى أن يضطروا إلى الإسراع إلى هنا وهم يعوون. حتى ولو اضطرني الأمر إلى نسف بعض الكنس اليهودية، سيكون ذلك سيان، ولن يهمني الأمر أيضا إذا قمتم، بعد خمس دقائق من إنجازي العمل القذر، من تحقيقي الهدف ووضع كل شيء في مكانه، إذا ما قمتم بمحاكمتي على نمط نورنبرغ .. إذا ما حكمتم علي بالسجن المؤبد، إذا ما شنقتموني بتهمة جرائم حرب، إذا ما كان ذلك يعجبكم. بعدها ستغسلون ضمائركم الجميلة بعناية بالماء المعقم وتصبحون جملاء بما يكفي، كبارا وأصحاء بما يكفي للانتساب إلى نادي الشعوب الحضارية، لا تترددوا، دعوني أتكفل بهذا العمل القذر، صفوني بكل الصفات التي تخطر ببالكم، فما لا تستطيعون أن تفهموه هو أن العمل القذر للصهيونية لم يكتمل عام 1948 وبسبب خطئكم أنتم".
وانتقالاً من ذلك المانيفستو النازي لشارون منذ العام 1982 إلى أفكار ومشاريع شارون بعد انتقاله لسدة السلطة، نجد أنه -صرح وأعلن مرارا عن ذات الأفكار الإجرامية الواردة في المانيفستو وإن كان بعبارات تتناسب أكثر مع الزمن الراهن.
لذلك يمكننا أن نثبت بالقراءة الموثقة أن رفع وتيرة التصعيد الحربي الدموي القمعي التركيعي والاستعماري الاستيطاني ضد الفلسطينيين هي العنوان الرئيس للمرحلة الشارونية كما أنها ستكون العنوان الرئيس كذلك للمرحلة الأولمرتية؟
كان شارون قد أعلن في أكثر من مناسبة "أن إسرائيل توجد في حالة حرب" كما تحدث عن "أن الصراع وجودي متواصل منذ أكثر من 100 عام".
ومن الأهمية الالتفات إلى أن شارون لم يكن منفردا في تقديره هذا، فقد كان أولمرت دائما عن يمينه وكذلك كبار الجنرالات و"القيادة الصقورية الشابة التي تحيط به تتمسك بمقولة الصراع الوجودي بصورة أشد.. وإسرائيل بالتالي في حالة حرب بقاء وليس أقل من ذلك"، وهي "حرب من أجل أرض إسرائيل الكاملة التي كان له إسهام كبير في بنائها.. وإلى ذلك هناك مجموعة كبار الضباط النظاميين تعتبر نفسها أيضا في حرب وجودية".
ومن هنا فـ"إن القتال مع الفلسطينيين -حسب معتقداتهم- هو قتال حتى الموت، لأنه طالما بقي هناك أمل في التحرر لدى الفلسطينيين، فلن يتوقف الإرهاب"، وبالتالي فإنه "في اليوم الذي يتخلون فيه عن كل آمالهم في طرد اليهود من هنا، سوف يوافقون على التوقيع على اتفاق سلام طويل الأمد لأنه لن يكون أمامهم خيار آخر".
إنه ذات النهج والطريق العنصري الإرهابي الدموي الإبادي التطهيري ضد الفلسطينيين الذي قاده وأنتجه قادة وجنرالات الدولة الصهيونية ويواصله أولمرت اليوم كمواصل لمانيفستو ونهج شارون.
ولذلك كان حصاد حرب الاجتياحات والاغتيالات والقصف والحرق والهد والتدمير كبيرا واسعا نكبويا بالغ البشاعة الإجرامية، وتفيد أحدث الأرقام والمعطيات هنا بأن أكثر من 4420 فلسطينيا قد استشهدوا بينما أصيب أكثر من 47200 فلسطيني بجروح، وكان من بين الشهداء نحو 450 سقطوا جراء سياسة الاغتيالات، وكان من بينهم أيضا 282 شهيدة فلسطينية ونحو 850 طفلا.
أما عن الهدم والتدمير فقد دمرت حرب الاجتياحات نحو 75 ألف منزل بين تدمير كلي وجزئي.. في حين بلغ عدد مؤسسات التربية والتعليم التي تعرضت للقصف والتدمير نحو 359 مدرسة ومديرية تعليم وجامعة ووصل عدد الطلاب الذين استشهدوا إلى نحو 850 طالبا. يضاف إلى ذلك أن عدد الفلسطينيين الذين تم اعتقالهم ودخلوا معتقلات الاحتلال خلال الانتفاضة الأخيرة وصل إلى نحو 50 ألف فلسطيني ما زال منهم نحو 9500 معتقل في سجون ومعتقلات الاحتلال.
أما الأهداف الكبيرة الأيديولوجية والسياسية المبيتة التي وقفت وما تزال وراء حرب الاجتياحات وسياسات وتكتيكات وإجراءات شارون أولمرت وكبار جنرالات الحرب فهي تتعلق من جهة أولى بما يسمى بـ"أرض إسرائيل الكاملة" وتكريس المشروع الصهيوني فيها، وتتعلق من جهة ثانية بـ"إعادة صياغة المشهد السياسي وإعادة تشكيل الشعب الفلسطيني".
وكان واضحا من جرائمه "أنه ينوي دفع الفلسطينيين إلى مسار نهايته معروفة، في المرحلة الأولى الاستسلام من دون شرط، وفي المرحلة الثانية خيار الضفة الأخرى من الأردن، وبنهجه سعى شارون إلى إنزال الصهيونية عن مسار الصهيونية العملية -مأوى لشعب إسرائيل في الأجزاء الآمنة في أرض إسرائيل ووضعها على مسار الصهيونية المسيحانية- كما كتب المحلل الإسرائيلي ألوف بن في هآرتس".
ومن أجل تجسيد وتكريس مشروعه الصهيوني المسيحاني في "أرض إسرائيل" ربط شارون البعد الأيديولوجي بالبعد السياسي المبني على "إلغاء الآخر الفلسطيني سياسيا وإنهاء الطموحات والآمال الفلسطينية في الحرية والاستقلال، وذلك على أرضية "إما نحن وإما هم".
واستتباعا لذلك فإن الاجتياحات الحربية التدميرية الاحتلالية المحمومة التي قادها البلدوزر لم تبقِ ولم تذر، ولم تترك مدينة أو قرية أو مخيما أو شجرة أو حجرا إلا وألحق بها أو به الأذى والضرر.
واليوم ها هو أولمرت الشاروني يواصل طريق معلمه في الإرهاب المجازري الجماعي ويعيد الأوضاع إلى مربعها الأول, ويستأنف لغة المروحيات والصواريخ والاغتيالات والمجازر الجماعية ضد نساء وأطفال وشيوخ فلسطين ويهدد بالاجتياحات وإعادة الاحتلال لغزة.
ويبدو حسب المؤشرات والمخططات الحربية الإسرائيلية التي كشف النقاب عنها في الأيام الأخيرة أن هذا التصعيد الحربي وهذه الاغتيالات والمجازر التي تنفذ ما هي إلا "أول الغيث" - كما أسموها جنرالاتهم -في حملة حربية مجازرية جديدة يبيتها ويقودها أولمرت في محاولة منهجية مبيتة لفرض رؤيته وشروطه السياسية والأمنية الاستسلامية على الشعب الفلسطيني بالضبط كما كان شارون قد رسم وأراد.
وهاهي فلسطين تعود لتشتعل من جديد في ظل جحيم الاغتيالات والمذابح ولتصبح على مفترق طرق إستراتيجي ولتغدو عمليا بين الاحتلال الثالث المحتمل جدا كما نادى بعض جنرالاتهم في الآونة الأخيرة لقطاع غزة وفق جملة من القراءات الإسرائيلية والفلسطينية على حد سواء, وبين الانتفاضة الثالثة المحتملة جدا أيضا بفعل ديناميكيات الأحداث والوقائع الجارية على أرض الضفة والقطاع.
ما يفتح أمامنا في آفاق المشهد الفلسطيني كل الملفات والاحتمالات مجددا، ولنتساءل بصوت مرتفع جدا، لماذا إذن تنتكس الأوضاع الفلسطينية دائما على هذا النحو كلما لاحت في الأفق بوادر مخرج ولو مؤقتا "استراحة المقاتل"؟
استنادا إلى معطيات الخريطة الحزبية السياسية الداخلية للأحزاب والمعسكرات الإسرائيلية وكما أسفرت عنه الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية الأخيرة يوم 28/2/2006 فإن أولمرت الشاروني يتفرد على قمة الهرم القيادي الإسرائيلي ومن المتوقع أن يواصل حكم "إسرائيل" حتى نهاية العام 2010.
واستتباعا فإنه يتوجب على الفلسطينيين والعرب التعاطي مع هذه المعطيات الإسرائيلية باعتبارها حقيقة كبيرة ماثلة بقوة, وعليهم بالتالي التعاطي مع المفاهيم والمضامين الحقيقية للمشروع السياسي الأولمرتي الشاروني الذي يستند إلى نظرية "إدارة الصراع" وليس تسويته في إطار سلام عادل وشامل ودائم.
ولذلك من الأهمية البالغة دائما قراءة المشروع السياسي الإسرائيلي قراءة متجددة تأخذ بعين الاعتبار أحدث معطيات وإحداثيات المشهد السياسي الإسرائيلي والإقليمي والدولي.
ومن الأهمية الأشد إلحاحية أن نعود لنقرأ مجددا الخطوط الأساسية لرؤية أولمرت وشارون من قبله لكل قصة "فك الارتباط" و"الانفصال والتجميع والانطواء" و"السلام" مع الفلسطينيين.
في هذا المضمون تحدثت مصادر إسرائيلية وفلسطينية عديدة عن أن "الفك" سيحول قطاع غزة من جهة أولى إلى أضخم سجن على وجه الكرة الأرضية، كما سيؤدي في المرحلة اللاحقة من جهة ثانية إلى انتفاضة فلسطينية ثالثة الأمر الذي سيقود من جهة ثالثة حسب بعض التحليلات الإستراتيجية إلى ما أطلقوا عليه "الاحتلال الثالث" لقطاع غزة.
ليتبين لنا في ضوء كل هذه الحقائق والخلفيات "أن مرحلة ما بعد "الفك" و"الانفصال والتجميع", هذه المرحلة التي دشنها شارون في عهده بـ"أول الغيث" ويدشنها أولمرت اليوم بأبشع المجازر على رمال شاطئ غزة ستكون أشد إحتداما واشتباكا وصراعا قد يصل إلى نقطة الصفر لـ"الاحتلال الثالث" الإسرائيلي المحتمل للقطاع، وأن هذا "إنما هو مؤشر لما هو آت, وأنه يفتح عمليا كل الملفات وكل الاحتمالات.
لذلك نقول "على الفلسطينيين والعرب أن يعملوا من أجل احتواء المرحلة وإحياء أجندتهم السياسية في ظل ظروف وموازين عربية وإقليمية جديدة, وعليهم أن يقوموا هم بدورهم في صياغتها حتى لا تبقى "إسرائيل" اللاعب الوحيد على الحلبة بلا منازع, وعليهم أن يكونوا في حالة استنفار لمواجهة حقيقية لاحتمالية "الاحتلال الثالث" وكذلك لاحتمالية "الانتفاضة الثالثة".
نواف الزرو
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد