حماس تناطح الجدار
يصعب على حركة حماس اليوم أن تجد في الساحة العربية أو الإسلامية من يحسدها على الوضع الذي تعيش فيه.
فبعد أن كانت أملاً لدى العديد من الفلسطينيين والعرب والمسلمين، بانتهاج طريق يحمي المسيرة الفلسطينية من التخاذل ويعزز نضالها ويجدد شبابها، صارت تبدو كمطرقة تحطم الأحلام.
فحماس التي نشأت من رحم حركة سياسية عاشت المد والجزر وشهدت الصواب والخطأ، بدت وكأنها تجربة جديدة منفتحة على أفق واسع. ولكنها، على الأقل في أزقة غزة وبسرعة فائقة، تحولت إلى كابوس.
ولا ريب في أن الخسارة في ذلك هي من نصيب الشعب الفلسطيني، الذي فقد بهذا التحول واحداً من أبرز عناصر قوته. فحماس كانت إطاراً نضالياً دفع الفعل الكفاحي خطوات إلى الأمام، وشكّل حالة قوية مناهضة للترهل والفساد، ووزناً مضاداً للتخاذل.
ويتعذر على كل من يعرف أبجديات الفعل الفلسطيني الداخلي أن يشكك في واقع الفساد أو الفلتان الأمني المدمر، الذي كان قائماً في السلطة الفلسطينية.
غير أن مقاومة الفساد والفلتان الأمني ليست مهمة طرف واحد على الساحة الفلسطينية، أياً كان حجمه. ومن الجائز القول إن نتائج تجربة الانقلاب الذي نفذته حماس في قطاع غزة هو أكبر دليل على ذلك.
فـ«شعب الجبارين»، بحسب التعبير المحبب للرئيس الراحل ياسر عرفات، ليس من السهل تطويعه خارج توافق وطني شامل. ويجد كل من يتنطح لـ«تأديب» هذا الشعب أو تلقينه «قانون السير» و«احترام القانون»، أن هذه المهمة مستحيلة خارج التوافق.
والواقع أن الذراع العسكري لحماس في قطاع غزة أنشأ لنفسه عقيدة أمنية خاصة، إلى جانب العقيدة العسكرية لمقاومة الاحتلال. ومن المنطقي الافتراض أن هذه العقيدة الأمنية هي الأطروحة النقيض لعقيدة الصبر والاحتمال والموعظة الحسنة التي دأب عليها قادة مؤسسون في فترات ضعف الحركة. وهي لا تخلو من نزعة انتقامية ثأرية تقوم على مبدأ «لا يفل الحديد إلا الحديد».
وعبرت هذه النزعة عن نفسها في استهداف أجهزة الأمن ووحدات الاعتقال، التي شهدت في فترات سابقة تعذيب عدد من قادة حماس وكوادرها. وغرست هذه العقيدة في نفوس الكثيرين من عناصر حــماس الجدد، وبمعزل عن التجربة الشخصية لكل منهم.
ونظراً للتجييش الهائل، فإن المنطق الذي استندت إليه العقيدة الأمنية لحماس هو «إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب». لذلك فهي لا تسمح بهامش كبير لتجنب الصراعات داخلياً. وهذا ما جرى في الصراعات التي وقعت، حتى قبل الحسم العسكري، مع خلايا لفتح أو وحدات أمنية.
وبعدما غدا قطاع غزة تحت السيطرة الميدانية الكاملة، استفادت حماس من رهبة القوة التي انتزعتها، وسعت إلى تطويرها لفرض هيمنتها. إلا أن السيطرة على قطاع غزة بدت أشبه بالسير في حقل ألغام كثيف.
ولا يكفي أن حدود حقل الألغام هذه مسيجة بأسلاك وجدران محروسة من الإسرائيليين والعرب، بل أن صواعق الألغام رخوة تنفجر مع كل هزة ريح.
وأمام حماس، لا تقف فقط ألغام الأجهزة الأمنية، التي كانت الطرف الأضعف في المواجهة، وإنما ألغام حركة فتح وباقي المنظمات الفلسطينية، وألغام العائلات، فضلاً عن ألغام الحصار ونقص المواد.
والواقع أن سيطرة حماس على القطاع بالطريقة التي تمت لم تكن سوى فتحاً لبوابات الجحيم على الفلسطينيين وحماس. فقد منحت نوعاً من التبرير لالتفاف شعبي ما حول طروحات كانت تتجه للسقوط، لو أديرت الحملة ضدها بطريقة توافقية أفضل. وهي التي فتحت الباب أمام تعاظم صدامات حماس مع العديد من القوى الفاعلة في مجتمع غزة.
تكفي هنا الإشارة إلى أن مؤتمر دمشق الذي تقرر عقده، رداً على مؤتمر الخريف في واشنطن، يوشك أن يتفكك بسبب خلافات حماس مع القوى الأخرى. وما يزيد الإحساس بالمصيبة هو أنه كلما اضطرت حماس لتبرير خطأ ما، صارت، من حيث تدري أو لا تدري، تقع في خطأ أكبر.
في البدء كان الصــدام مع الأجــهزة الأمنية، ثــم مع حــركة فتح وأنصارها، ثم مع العائــلات، والآن مع حركة الجـهاد الإسلامي. وكان تبرير الصدام جاهزاً من البداية، حيث اتُهم كل من يصطدم بحماس، بخدمة خطة دايتون والعدو الأميركي الصهيوني.
قد لا يكون بوسع أي جهة في العالم أن تقنع حماس بأنها أخطأت وأن من الواجب التراجع عن الخطأ. فحماس لا تزال تشعر أنها كانت على حق في كل ما فعلته. ومن الجائز أنها كانت على حق في بعض ما فعلته.
ولكن ليس حكيماً من يعتقد أن ما جرى ويجري من صدامات في قطاع غزة يقرّب الفلسطينيين من نيل حقوقهم أو يبشر بأن مستقبلهم أفضل.. والحق أن قيادة حماس تكسب أكثر في فلسطين ولدى العرب والمسلمين، إن أقرت بخطأ ما، وقع في غزة، وأعادت الاعتبار لمحاربة العدو، حتى لو خسرت غزة وقيادة حماس في غزة.
حلمي موسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد