رمضان دمشق وأسواقها
ليست «بسطات» جديدة، تلك التي تظهر في أسواق دمشق مع قدوم شهر رمضان وخلاله. كل ما في الأمر أن المحال التجارية تتقدم خطوتين أمام واجهاتها. الكتلة الأكبر من البضائع تبقى في مكانها، على الرفوف وفي الأدراج، لكن أصنافاً محددة تقفز إلى وسط الشارع. وابتداء من الآن سيكون «التمرهندي» و «العرق سوس» المملح الأبرز الذي يطرأ على مشهد الأسواق، فهما المشروبان التقليديان على موائد الإفطار لدى أهل الشام.
ومع أن أبو عدنان، يدير محلاً في سوق «البزورية»، ليس صغيراً لتغفله العين، تجده على رغم ذلك غادر المحل إلى وسط الشارع. وضع برميلين صغيرين، وعليهما ركز كميات من «التمرهندي» (الخام والمغلّف)، كما لم يفته تثبيت لافتة كتبها بخط اليد، تدل على سعر «لا جدال فيه». يقول إن نزوله إلى الشارع أمر ضروري للبيع: «هذه بضائع إذا تركتها مخبأة في المحل لن يعرف احد بوجودها، ولن يسأل عنها إن لم يرها، خصوصاً أنها في رمضان تنتشر على مد النظر». لا تبدو صحة «سوق البزورية» على ما يرام، وهو أمر واضح في تذمّر الباعة، وفي مظهره على حد سواء. فعادة، ومع قدوم رمضان، يصبح إيجاد موطئ قدم فيه أمراً صعباً. لكن هذا العام يبدو أن زواره تضاءلوا في شكل واضح للعين، التي يمكن أن تطارد قلّة منهم يتنقلون بين محلات عدة ويمضون... خفيفي الحمل.
طريقة أبو عدنان في النداء على البضائع، تنقل شيئاً من واقع حال السوق الراكد. لا يمكن تجاهل السخرية التي تحملها كلماته: «معك مصاري إدفع، ما معك... الله معك». يضحك عندما تسأله فحوى تهكمه هذا، فيوضح أن نسبة البيع «انخفضت بما يتجاوز الخمسين في المئة» مقارنة بما كانته العام الماضي، ويرجع الأسباب إلى أن هذا الشهر يحمل استحقاقات عدة مكلفة للعائلة السورية: «إنه موسم المدارس ومصاريفها الكبيرة، كما أنه موسم الإعداد لمؤونة الشتاء، إضافة إلى شراء المازوت للتدفئة».
هذه الكلمات الثلاث ستجدها تتردد على لسان كل من تقابلهم: «مؤونة، مدارس، مازوت». والمفارقة أن الناس يدعون شهر أيلول بشهر «الميم»، على اعتبار أن استحقاقات العائلة فيه كلها تبدأ بهذا الحرف. وقدوم رمضان في منتصف هذا الشهر جعل حلوله باهتاً. لا تلمح اكتظاظ الشوارع المعتاد، ولا الازدحام في الأسواق، ولا الأحمال الثقيلة في الأيدي، فيما الملامح تبدي انهماكاً مستمتعاً. وفوق ذلك، فالأسواق تضربها موجة غلاء «فاحش» في الأسعار، لم تستطع الحكومة كبح جماحه، بعد حديث ملأ الشارع ووسائل الإعلام حول رفع دعم الدولة عن المشتقات النفطية.
محمد قصيباتي هو أب لعائلة صغيرة مكونة من ولدين، يوضح، في يأس، أنه دفع نصف مرتبه لشراء تجهيزات المدارس لولديه، وهو يحاول جاهداً موازنة المصروف، لكن عبثاً: «أنا يئست من الحساب، وفي النهاية لم تتوازن الأمور معي، وإذا سألتني كيف سيمشي الحال؟ سأقول لك رب العالمين وحده الذي يعرف!».
تكاد الحرقة لا تفارق صوته، خصوصاً عندما يتحدث عن ارتفاع سعر البطاطا، إذ يرى من المجحف أن يزداد بمعدّل ثلاثة أضعاف «وهي المادة الأكثر استهلاكاً لدى عامة الناس».
وبدل مشهد الناس متزاحمين على محل واحد، كلّ يحض البائع على تلبية طلباته، ستجد أناساً مبعثرين على مساحة الرؤية. امرأة خمسينية تتوقف عند محلات عدة، من دون أن تدخلها. أغلب التجار، في سوق «البزورية» وأماكن أخرى، أكدوا أنهم لم يرفعوا الأسعار مع قدوم رمضان، وبعضهم أوضحح أنه يتمسك بأي زبون «حتى لو بعنا برأس المال». لكن أحمد، وهو شاب موظف في أحد المحال، قال ان «من الطبيعي جداً أن نرفع الأسعار، لماذا يرفع بائعو الخضار التسعيرة ونحن لا؟ كل الأسعار ارتفعت وهذه حقيقة يعرفها الجميع».
خارج الأسواق ما الذي بقي من آثار رمضان وقدومه؟ غير الأسعار المرتفعة، وشكوى الناس، بقي كل شيء على حاله. المطاعم تتنافس اعلانياً، على تقديم سعر وجبة الفطور الأرخص، وتعد بسهرات السحور الأمتع في خيمها. بعضها يعد بـ «حكواتي»، والبعض الآخر فضّل «برنامجاً فنياً عامراً بالطرب الشرقي».
محل واحد في كل سوق الحميدية، والأسواق المجاورة، يبدو مزداناً لقدوم رمضان. هناك زينة ملونة تنتشر في فضائه، وعلى جنباته. هو مكان لبيع الكتب الدينية والكاسيتات للدعاة الجدد والواعظين. يقول الشاب الذي يديره ان الأمور تسير على خير ما يرام، والجميع سعيد بقدوم «الشهر الفضيل». يبدو كلامه استبشاراً أكثر منه واقعاً. يشير إلى أن مبيعاته ازدادت في شكل ملحوظ، وكذلك بيع «الزينة». وعندما تسرّ له بأن حاله أفضل من حال زملائه في «سوق البزورية»، يرد أن حالهم أيضاً «جيدة والحمد لله». تستغرب طريقته في الجزم بما يقول وتنبهه إلى أن «السوق هناك فارغ تقريباً»، فيرد بابتسامة «رمضان كريم... والأمور إن شاء الله ستتحسن».
وسيم إبراهيم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد