شرق أوسط جديد وفق المعايير الروسية – الصينية
عندما استخدمت روسيا والصين في مجلس الأمن ولأول مرة معاً حق الفيتو ضد قرار تقدّمت به فرنسا وبريطانيا والبرتغال وألمانيا ضد سوريا في 4 تشرين الأول/أكتوبر 2011 لم يكن أحد يتوقّع لهذا الموقف الروسي – الصيني المدعوم من البرازيل والهند وجنوب أفريقيا، ولبنان الذي امتنع عن التصويت، أن يكون بداية لتحوّلات محتملة في المنطقة وعلى حساب كل المخططات والمشاريع الأميركية التي بدأت بعد اللقاء الأول بين الملك عبد العزيز آل سعود والرئيس الأميركي روزفلت في 14 شباط/فبراير1945 وعلى متن المدمّرة الأميركية كوينسي الراسية وسط البحر الأحمر.
وسخّرت السعودية بعد ذلك التاريخ كل إمكانياتها الجيوسياسية والنفطية والدينية/الطائفية خدمة للمخططات والمشاريع المذكورة بعد أن جعلت منها واشنطن خندقاً أمامياً للتصدّي لما يسمّى بخطر الشيوعية والتيار القومي الناصري ذي النفس اليساري.
وفي هذا الإطار استنفرت الرياض كل إمكانياتها لدعم كل من له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بحركات الإسلام السياسي المعتدل منه والمتطرف، وذلك بالتنسيق والتعاون مع واشنطن ولندن وحليفاتها الإقليمية والدولية التي كانت تسعى لإقامة “شرق أوسط جديد” وفق معاييرها ومقاييسها التي تعني قبول الجميع بالكيان الصهيوني المصطنع في فلسطين بعد 1948.
وجاء الإعلان عن حلف بغداد في شباط/فبراير 1955 كبداية لهذه الرغبة الأميركية التي تبلورت بالعدوان الصهيوني البريطاني الفرنسي المدعوم أميركياً في تموز/يوليو 1956على مصر، وليكون العدوان الصهيوني على مصر وسوريا والأردن في حزيران/يونيو 1967 العمل الأكثر فعاليّة على طريق فرض فكرة الشرق الأوسط الجديد على جميع دول وشعوب المنطقة.
وسبق ذلك التآمر الدولي والإقليمي على مصر لإبعادها عن سوريا (الانفصال 1961) وجرّها إلى حرب اليمن (1962). وكان الأميركيون يتحدثون في كل مرة عن “شرق أوسط جديد”، إلى أن تحدث شمعون بيريز علناً وبعد مؤتمر مدريد (1991 – 1992) عن ضرورة فتح الأبواب على مصاريعها أمام نظام شرق أوسطي جديد يؤدي إلى شرق أوسط كبير.
وهو ما اقترحه الرئيس بوش الابن في قمة سي أيلاند بأميركا في حزيران/يونيو 2004. وكان ذلك بعد سلسلة من الأحداث المثيرة التي عاشتها المنطقة، وأهمها احتلال أفغانستان والعراق واغتيال رفيق الحريري، وأخيراً الهزيمة النكراء التي تعرّض لها “الجيش” الإسرائيلي الذي لا يقهر في حرب تموز في لبنان.
ودفع ذلك وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس إلى زيارة تل أبيب فوراً أواخر تموز/يوليو 2006 لتعلن من هناك عن “ضرورة بناء شرق أوسط جديد”، وفق رؤية المحافظين الجدد في واشنطن. وهو ما أشار إليه الرئيس بوش في خطابه التقليدي للشعب الأميركي أواسط آب/أغسطس 2006 حيث قال “إن الشرق الأوسط يشكّل ساحة الصراع الأولى بين الحرية والإرهاب، وإن هذه المنطقة الآن أمام لحظة مفصلية من تاريخها باعتبار أن الحرب في لبنان مظهر أساسي لصراع الحرية ضد الإرهاب”.
وكان المهم في الشرق الأوسط الجديد الذي أعلن عنه بوش هو إعادة تشكيل الخريطة الجغرافية لدول الشرق الأوسط (لاحقاً الكبير) بالشكل الذي ينسجم مع الأهداف الأميركية ويكون بديلاً عن الخريطة التي وضعتها القوى الكبرى في مطلع القرن العشرين أي بريطانيا وفرنسا، وكل ذلك بغياب الدولة العظمى الثانية أي الاتحاد السوفياتي ووريثته روسيا.
وجاءت نظرية رايس المعروفة بـ “الفوضى الخلّاقة” لتثبت للجميع مدى جدية واشنطن وحلفائها في مساعيها لإعادة ترتيب أوراق المنطقة في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير وبصيغته الضيّقة الشرق الأوسط الجديد. فعاشت المنطقة برمّتها من باكستان إلى المغرب ثم الصومال واليمن أحداثاً دموية أخذت طابعاً أكثر فعالية مع ما يسمى بـ “الربيع العربي” الذي كان البعض يريد له أن يضع النقاط على الحروف على طريق الشرق الأوسط الجديد ليكون الجميع في خدمة الكيان الصهيوني تارة بحوار الأديان وأخرى لتحالف الحضارات وأخيراً الاتفاقيات الإبراهيمية.
وجاء قرار التدخّل الروسي في سوريا في أيلول/سبتمبر 2015، وقيل إنه بفضل إقناع الشهيد قاسم سليماني للرئيس بوتين كي يمنع واشنطن ومن معها من تحقيق أهدافها على الرغم من إمكانياتها التقليدية في المنطقة، التي كان وما زال فيها العشرات من القواعد العسكرية التي لم تستطع إسقاط الدولة السورية التي صمدت بفضل الدعم الروسي والإيراني العسكري والصيني دبلوماسياً وسياسياً ونفسياً.
وكان هذا الدعم ومعه دعم حزب الله كافياً لإلحاق الهزيمة بأولئك الذين كانوا يحلمون بالشرق الأوسط الجديد وأرادوا له أن يتأسس عبر إرهاب مئات الآلاف من مجرمي “النصرة” و”داعش” وأمثالهم من إرهابيي المنطقة وأنحاء العالم كافة وكانوا جميعاً في خدمة نظرية الفوضى الخلّاقة.
وجاء مقتل جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول في 2 تشرين الأول/أكتوبر 2018 كشرارة أولى تضيء الطريق أمام محمد بن سلمان ليرى الحقيقة التي ساعده فيها الرئيس بوتين.
فصبر بوتين طويلاً ثم جلس إلى جانب محمد بن سلمان (وهو ما فعله الرئيس الصيني شي جين بينغ) في قمة العشرين التي انعقدت نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2018 في الأرجنتين في الوقت الذي لم يقترب منه أحد آنذاك من حكّام الغرب بحجة علاقته بمقتل خاشقجي.
وكانت المودة بين محمد بن سلمان وكل من بوتين وبينغ البداية الصادقة التي أسست لعلاقة شخصية ورسمية مبنية على المصالح المشتركة والاحترام الصادق الذي لم يعتد عليه آل سعود في علاقاتهم مع حكّام الحليف الأكبر أميركا، والذين أهانوا دائماً آل سعود وحكّام الخليج معاً. وهو ما فعله ترامب بشكلٍ سافر عندما استقبل محمد بن سلمان في البيت الأبيض في آذار/مارس 2018 وهو يحمل لوحة فيها صور الأسلحة الأميركية وقال له “إنك غني وعليك أن تشتري هذه الأسلحة”.
وقد يكون هذا الموقف وأمثاله ومن قبله وبعده الانحياز الأميركي إلى جانب قطر السبب الكافي لتحريك “الشهامة والكرامة العربية” لدى الشاب محمد بن سلمان الذي فتح بعد ذلك أبواب الحوار ثم التنسيق وأخيراً التعاون “المشرّف” مع موسكو وبكين ولم تطلبا منه لا قواعد ولا بترول ولا عداءات ولا حروب ضد الآخرين.
وقد يكون ذلك السبب الأهم في قرار ابن سلمان لتطوير نوع جديد من العلاقة الشخصية مع كل من بوتين وبينغ وكانا صادقين في كل أنواع الحوار المتبادل الذي أبعد السعودية (على الأقل الآن) عن المعسكر الإمبريالي/الاستعماري الغربي في حربه ضد روسيا في أوكرانيا. كما هو فتح صفحة جديدة في العلاقات الدولية والإقليمية على أساس المصالح المشتركة للدول والشعوب التي سئمت من استغلال واستحقار وإهانة الأميركيين لها منذ 80 عاماً.
وهذا ما فعله الغرب الإمبريالي منذ مئات السنين وخلافاً للصين وروسيا (سابقاً الاتحاد السوفياتي) اللتين لم تقوما بأي عمل عدائي ضد هذه الدول وشعوبها. وجاء النجاح الصيني المثير والمدعوم من روسيا في تحقيق المصالحة بين السعودية وإيران ليؤكد هذا الموقف الروسي الصيني المشترك، وهدفه الوحيد هو إنقاذ دول وشعوب المنطقة وبالتالي العالم من غطرسة أميركا والغرب الإمبريالي لها ليتسنّى للجميع إقامة شرق أوسط جديد ونظيف من كل العداءات والأحقاد وبالتالي الحروب التي أثقلت كاهل الجميع.
ويبقى الرهان على إيمان كل الأطراف والأهم إيران والسعودية بمصداقية الموقفين الروسي والصيني لفتح صفحة جديدة ومضيئة في مستقبل المنطقة بامتداداتها إلى الشرق حتى الهند وباكستان، وغرباً حتى البرازيل والأرجنتين وكل دول أميركا اللاتينية، وجنوباً حتى جنوب أفريقيا ومن معها في القارة السمراء التي عانت ما عانته من المآسي والآلام على يد المستعمرين الجدد والقدامى كما هو الحال في أميركا اللاتينية.
فإذا أدرك الجميع هذه الحقيقة وتصرّفوا وفقها فقد يكون ذلك كافياً ليس فقط لإقامة شرق أوسط جديد بمعايير شعوبها ودولها، بل لإقامة نظام دولي جديد يحترم فيه كل طرف الطرف الآخر على قاعدة المودة المتبادلة التي ستحقّق أعلى مستوى من المكاسب والمصالح الاقتصادية والمالية، وبالتالي الاجتماعية والثقافية، ليعيش الجميع جنباً إلى جنب، وفي كثير من الأحوال معاً يداً بيد بعيداً عن التعنّت والعداء القومي والديني والطائفي الذي دفع ثمنه الجميع غالياً منذ 100 عام كما هو في الحربين العالميتين الأولى والثانية.
وأخيراً في ما يسمّى بـ “الربيع العربي”، وأراد له البعض في الخارج والداخل أن يساعد اتباع كونداليزا رايس كي يؤدي إلى شرق أوسط جديد ترويه دماء الملايين من أبناء هذه الجغرافيا وهي مهد جميع الأديان ومعظم الحضارات.
فعسى أن يستخلص كل من هم في هذه الجغرافيا ما يكفيهم من الدروس من أجل إقامة نظام جديد وكريم ومشرّف يمد يده إلى كل من يريد الأمن والاستقرار والسلام لهذه المنطقة، وأياً كان الشعار من شرق أوسط كبير إلى جديد إلى أبيّ وشريف وصادق مع نفسه ومع حلفائه الجدد.
حسني محلي - الميادين
إضافة تعليق جديد