حرية الفكر 2
نستكمل منهجية تعامل الإسلام مع غير المسلمين التي بدأناها في المقال السابق (حرية الكفر)..
رابعًا: المساواة أمام القانون:
يظن البعض أنه طالما الإسلام هو الدين الحقّ، فهو يميّز المسلمين في الدنيا، ويجعل للمسلمِ على غيره درجة ويدًا وسلطة وعطاءً أكثر!
لكن ثمة فرق كبير بين عطاء الله في الآخرة -وهو مرهون بالإيمان الصحيح والعمل الصالح- وبين عطاء السلطة في الدنيا – هو مرهون بحقوق المواطنين- والمواطنون كلهم سواء، ولا فرق بينهم حسب الدين أو الجنس أو اللون أو اللغة.
ويعلن علي بن أبي طالب هذه المساواة فيقول: “أيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله يرى أن الفضل له على من سواه لصحبته، فإن الفضل النير غدًا عند الله، وثوابه وأجره على الله.
وأيما رجل استجاب لله وللرسول، فصدَّق ملتنا، ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يُقَسَّم بينكم بالسوية، لا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله غدًا أحسن الجزاء وأفضل الثواب، لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجرًا ولا ثوابًا، وما عند الله خير للأبرار.
وإذا كان غدًا إن شاء الله فاغدوا علينا، فإن عندنا مالًا نقسمه فيكم، ولا يتخلفن أحد منكم، عربي ولا أعجمي، كان من أهل العطاء أو لم يكن، إلا حضر”.(1)
لذلك نزل القرآن لتبرئة يهودي مظلوم وليُدين مسلمًا ظالما؛ فحين سرق أبناء طعمة بن أبيرق الدقيق والسلاح من جارهم رفاعة بن زيد، ولما افتضح بنو أبيرق طرحوا المسروق في دار يهودي، وجاؤوا إلى النبي فاشتكوا إليه أن رفاعة اتهمهم بالسرقة، وهم أهل إيمان وصلاح، وأن المسروق في بيت اليهودي، فأنزل الله تبرئة اليهودي وفضح جريمة أبناء طعمة بن أبيرق.
هل يُقتل مسلم بذمّي؟
أجمع الفقهاء على أن قتل غير المسلم كبيرة يُحاسب عليها المسلم في الآخرة، وقال النبي: “من قتل نفسًا معاهدًا، لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا”.(2)
أما عن القصاص في الدنيا، فقد أفتى الشافعي وأحمد بعدم قتل المسلم إن قتل ذمّيًا، وأفتى مالك بأن المسلم إن قتل ذميًا غيلةً (أي دون مواجهة) يُقتل، أما إن كان عن مواجهة، فلا يُقتل مسلم بذمي، مستندين على حديث النبي: “لا يُقتل مسلم بكافر”!
لكن القرآن صريح في حرمة الأنفس جميعها على حدٍ سواء بلا تمايز بينها، فقال تعالى:
(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)، وعدم قتل المسلم بالذمي هو مخالفة صريحة للآية؛ لأنه لم يجعل النَّفْسَ بالنَّفْسِ، بل ميَّز نفْسًا عن نفْسٍ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)، وقوله تعالى: (القتلى) عام يشمل كل قتيل بلا استثناء دين أو جنس.
(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا).
وأجمع الفقهاء على أن المسلم تُقطع يده حدًّا إن سرق غير مسلم؛ لأنه لا فرق بين مال المسلم وغيره، فكيف تتساوى الأموال وتختلف الأنفس؟!
وقد سأل أحد الولاة عمر بن عبد العزيز عن مسلم قتل ذميًا، فقال عمر: “ادفعه إلى وليِّه، فإن شاء قتله، وإن شاء عفا عنه”، فدُفع إليه، فضرب عنقه.(3)
أما عن قول النبي: “لا يُقتل مسلم بكافر”، فالمقصود بالكافر هنا: الكافر الحربي، ويؤكد ذلك إن أكملنا الحديث، فيقول النبي: “لا يُقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده”(4)؛ أي لا يُقتل المسلم إن قتل الكافر، ولا يُقتل المعاهَد إن قتل الكافر، لكن المعاهَد هو غير مسلم، فإن كان المقصود بالكافر: كل من غير المسلمين، لأصبح غير المسلم لا يُقتل إن قتل غير المسلم، وهو بلا معنى، ولم يقل به أحد البتة، إذن فلا بد أن المقصود بالكافر: الكافر الحربي؛ فلا يُقتل المسلم إن قتل الكافر المحارب، ولا يُقتل المعاهَد إن قتل الكافر المحارب.
لذلك أفتى الشَّعبي، والنخعي، وابن أبي ليلى، وعثمان البتِّي، وأبو حنيفة وأصحابه، والقرضاوي، بأن المسلم يُقتل إن قتل غير مسلم، وهذا ما اعتمدت عليه الخلافة العثمانية ونفذته.
خامسًا: المودة في التعامل:
1. التفريق بين الديانة ومتبعيها
يفرِّق الإسلام بين موقفه من العقائد أو الديانات الأخرى وبين أتباع هذه الديانات، هذا التفريق يتمثل في أن موقف الإسلام من الديانات والعقائد الأخري ثابت، فقد أعلن بوضوح أن كل ديانة غير الإسلام باطلة، (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلَامُ)، وهذا الموقف لا يتغير مطلقًا، أما موقفه من أتباع هذه الديانات والعقائد فهو متغير، بحيث يصبح السلم لمن سالم، والعداء لمن عادى، والقتال لمن قاتل، إلخ.
يقول تعالى عن المقاتلين: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).
ويقول عن المسالمين: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
2. القيم الأخلاقية شاملة للجميع
تحرِّم اليهودية الربا بين اليهود، لكنها تحله مع غير اليهود! وتحرِّم استرقاق اليهودي الغارم، لكنها تبيحه مع غير اليهود!
أما في الإسلام، فالقيم الأخلاقية تسري على البشر كافة، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين. يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِما يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)، هنا العدل والأمانة مع الجميع، أيًا كان.
كما أن أمره تعالى بالصدقة على الفقراء يشمل غير المسلمين.
وأمره بحسن معاملة الأسرى يشمل غير المسلمين الذين كانوا محاربين منذ ساعات.
ولا نحتاج للمرور على كل خلق لنثبت أنه شامل كل الناس، مسلمين وغير مسلمين.
بل أكثر من ذلك، فالإسلام يسكب في النفوس المؤمنة أخلاقيات ثابتة مهما كان خُلُق الآخر، فلا نخون ولا نغدر وإن خانوا، لا نكذب وإن كذبوا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ).
يقول سيد قطب: “فهو يأمر المسلمين ألا يتخذوا بطانة من هؤلاء. ولكنه لا يحرضهم على مقابلة الغل والحقد والكراهية والدس والمكر بمثلها. إنما هي مجرد الوقاية للجماعة المسلمة وللصف المسلم.. أما المسلم فبسماحة الإسلام يتعامل مع الناس جميعًا، وبنظافة الإسلام يعامل الناس جميعًا، وبمحبة الخير الشامل يلقى الناس جميعًا يتقي الكيد ولكنه لا يكيد، ويحذر الحقد ولكنه لا يحقد. إلا أن يحارب في دينه، وأن يفتن في عقيدته، وأن يصد عن سبيل اللّه ومنهجه”.
3. مراعاة القرابة
كما يراعي الإسلام أن غير المسلم قد يكون قريبًا من المسلم، هذه القرابة قد تكون بسب صلة رحم، فيقول تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، هذا البر بالوالدين يتضمن الوالدين سواء كانا مسلمين أو غير ذلك.
ويقول تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)، وهذه المودة والرحمة تختص بها الزوجة، سواء كانت مسلمة أو كتابية.
4. غير المسلم مختلف وليس ضد
يتعامل الإسلام مع غير المسلم باعتباره المختلف وليس الضد، والفرق بينهما كبير؛ فالتعامل مع الآخر على أنه عدو يقتضي قطع العلاقات، أما التعامل مع المختلف يتعين تحديد وجه الاختلاف، مع بقاء العلاقات الإنسانية في أحسن حال، لذلك يحدد الإسلام موضع الاختلاف بين المسلم والآخر فيقول تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)، وهنا يعلن القرآن بوضوح أن اتفاق المسلمين مع غيرهم في العقيدة مستحيل، ولن نتفق أو نرتضي جميعًا عقيدة واحدة.
أما في المعاملات الإنسانية فيقول تعالى: (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، والبر هو الإحسان، وهو أكبر من العدل. ولاحظ هنا أن الصيغة ليست أمرًا بالبر؛ لأن بر غير المعادي هو طبيعة إنسانية، لا تحتاج إلى أمر، وإنما جاءت الآية برفع النهي والحرج عن البر لتأخذ الأنفس وضعها الطبيعي من البر وحسن التعامل، (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ).
5. المودة
قد شهدت السنة النبوية تعاملات ودية مع غير المسلمين تكشف عن حصيلة العلاقة الرحبة والودية مع غير المسلمين.
مثلًا أبو البختري، الذي سعى في نقض صحيفة حصار بني شعب، فحين رآه النبي في صفوف المشركين في بدر يُقاتِل المسلمين، نهى عن قتله وقال: “من لقي أبا البختري فلا يقتله”.
والنجاشي، فقد كان على النصرانية، وامتدحه النبي بقوله: “إن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد”، بل جعله وليًا لأم حبيبة، بنت أبي سفيان، لتزويجها له؛ فقد كانت أم حبيبة من المهاجرات إلى الحبشة، وتنصّر زوجها (عبيد الله بن جحش)، ثم فارقته، فتزوجها رسول الله، وجعل النجاشي وليًا لها، رغم أنه كان الطبيعي أن يجعل جعفر بن أبي طالب وليها، فهو زعيم الوفد، وابن عم رسول الله، أو أن يجعل الولاية لأي من المهاجرين من بني أمية، إلا أنه قصد تكريم النجاشي وتعظيم شأنه، فجعله هو وليها.
وروى البخاري أنه: “كان غلامٌ يهوديًا يخدم النبي، فمرض، فأتاه النبي يعوده”.
وكانت صفية بنت حيي، زوج النبي، لها أخ يهودي، وأوصت له بثلث مالها”.
وقال تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ).
يقول سيد قطب: “إن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لغير المسلمين حريتهم الدينية ثم يعتزلهم، فيصبحوا في المجتمع الإسلامي مجفوين معزولين -أو منبوذين- إنما يشملهم بجو من المشاركة الاجتماعية، والمودة، والمجاملة والخِلطة. فيجعل طعامهم حِلًا للمسلمين وطعام المسلمين حِلًا لهم كذلك. ليتم التزاور والتضايف والمؤاكلة والمشاربة، وليظل المجتمع كله في ظل المودة والسماحة”.
وصية الرسول:
الآن تصعد روح آخر رسل الله إلى بارئها، وينقطع اتصال السماء بالأرض، ويتوقف صوت الله في البرية، الآن يحتضر رسول الله، تلك اللحظات التي يتكشف فيها كل وهم وغش، ويتساقط كل قناع، وتتجلى فيها الحقيقة، فيظهر للمحتضر فقط ما شغل هَمَّهُ وملأ فؤاده، وما سوى ذلك يتوارى، عندئذ يمسك المحتضر بعقارب الساعة ليوصي أهله بالأهم وليس المهم.. في تلك اللحظات أوصى رسول الله خليفته بأهل الذمة، فقال: “أوصيه بذمة الله، وذمة رسوله، أن يُوفى لهم بعهدهم، وأن يُقاتل من ورائهم، ولا يُكلفوا إلا طاقتهم”.
إن الإنسان ليقف مذهولًا أمام تلك الوصية؛ فلم يكن النبي أول ولا آخر من يدعو للتسامح ونشر السلام، لكن المبهر أن تشغله القضية حتى يوصي بها لحظة وفاته، يتذكر ويوصي بقوم قد عاش حياته كلها يدعوهم إلى الإسلام، وهم قد كفروا برسالته، وكذَّبوه، ولم ينصروه، اليوم وفي هذه اللحظة العصيبة يذكرهم ويوصي بهم؟ أليس في النفس شيء ممن كذَّبوك؟!
المحطة
إضافة تعليق جديد