إسرائيل في عيدها الـ 59: التحديات والإمكانات
تجد إسرائيل، نفسها في الذكرى الـ 59 لقيامها، في مواجهة مجموعة من التحديات تهدد وجودها في أساسه. تحديات سعى نائب رئيس مركز بحوث الأمن القومي في جامعة حيفا دان شيفتان، إلى تفنيدها، وذلك في دراسة نشرتها صحيفة «يديعوت أحرونوت» أمس في ما يلي، موجزاً عنها:
مع بداية العام الستين لاستقلالها، تقف إسرائيل أمام جملة من التحديات الاستراتيجية. الأخبار السيئة هي أن هذه التحديات أكثر تعقيداً من أي وقت في الماضي، والأخبار الجيدة هي أن قدرة الصمود الإسرائيلية المؤكدة تفوق خطورتها. التحديات الاستراتيجية الأساسية هي ستة. وفيما يلي عرضُها بدءاً بالدائرة الداخلية المتعلقة بالمجتمع الإسرائيلي، وانتهاءً بالمنظومة الإقليمية والدولية.
أزمة القيادة
التحدي الأول: هو أزمة القيادة الهيكلية والعميقة التي تلم بالديموقراطية الإسرائيلية، وتتجاوز كثيراً مسألة المواصفات الشخصية لأعضاء الحكومة والكنيست. الحديث هو عن نسخة إسرائيلية خطرة لأزمة القيادة التي تطبع الأنظمة الحرة في العالم أجمع. تتمحور هذه الأزمة حول تشوه هيكلي لمسار إيجابي في أصله يقوم على الفصل بين قوة السلطة والمسؤولية عن نتائج العمل السياسي. المؤسستان، القضائية والإعلامية، راكمتا على مدى العقود الماضية قوة لا سابق لها في التاريخ، وذلك على حساب مؤسسات السلطة، التشريعية والتنفيذية، التي تتحمل المسؤولية تجاه المجتمع والدولة. القضاء والإعلام يقدمان إلى الدولة والمجتمع معايير تطهرية ومطالب مبالغاً فيها، من دون أن يتحملا مسؤولية نتائج محاولة تطبيق هذه المطالب، حتى عندما يكون واضحاً تماماً عدم إمكان تحملها، وخصوصاً على المدى القريب. من يتحمل المسؤولية يفقد الكثير من قوته، وهو في الوقت نفسه يواجه توقعات لا يمكن تلبيتها، مما يضطره إلى تكريس معظم جهوده للحفاظ على مكانته السياسية. أما نوعية القرارات التي يتخذها، والمسؤولية المترتبة على تداعياتها على المديين المتوسط والبعيد، فتأتي في المرتبة الثانية. هذه الأزمة تحيط بكل الأنظمة الديموقراطية، إلا أن إسرائيل تختص بأنها مضطرة إلى أن تواجه، في ظل هذه الظروف، أخطاراً وجودية وتهديدات داخلية وخارجية تطال شرعية وجودها.
التحدي الثاني: وهو أيضاً داخلي، ويتعلق بمواطني إسرائيل الفلسطينيين الساكنين بيننا (أولئك الذين اعتدنا تسميتهم، من دون موافقتهم «عرب إسرائيل»). إن نخبتهم المنتخبة، السياسية والاجتماعية والثقافية، استكملت أخيراً مساراً مطولاً لتحولات جذرية محورها: إعلان حرب سياسية على دولة القومية اليهودية. لقد أقلع أعضاء هذه النخبة عن التظاهر بأن طموحاتهم تتركز على تحقيق المساواة المدنية أو الحقوق الجماعية ضمن إطار الدولة التي أنشئت وفقاً لمبادئ وثيقة الاستقلال. أصبحوا يطالبون عملياً باجتثاث المشروع الصهيوني الذي أسس الدولة، ويقدمونه على أنه مشروع استعماري مرفوض من أصله، كما يرفضون قيام دولة قومية يهودية إلى جانب دولة وطنية فلسطينية. إنهم يطالبون في الواقع بتقسيم الأرض بين البحر والنهر إلى قسمين: دولة عربية، ودولة غير يهودية مقترنة بآليات ديموغرافية ستحولها في نهاية المطاف إلى دولة عربية ثانية. وقد تبنوا في هذا السياق الرؤية الفلسطينية، التي تفضل السعي إلى خراب المشروع القومي اليهودي على بناء مجتمعهم وتأمين مستقبل أبنائهم. هذه الرؤية سادت عملياً في المجتمع العربي في إسرائيل، ومن يرفضها جهاراً فليس بإمكانه أن يؤدي دوراً رائداً في قيادة هذا المجتمع.
التحدي الثالث: يتعلق بالحركة الوطنية الفلسطينية. إن الدمج بين الجذرية العميقة والتفكك الاجتماعي البعيد المدى أبعد عملياً ليس فقط المصالحة والسلام مع الدولة القومية اليهودية، بل أيضاً تسوية ناجحة حول الإقلاع عن الإرهاب كاستراتيجية وطنية. إن قادة هذا المجتمع هم إما إرهابيون معادون للسامية يدعون جهاراً إلى إزالة إسرائيل، أو «معتدلون» لا شخصية لهم ملتزمون «حق العودة» وغير قادرين على مواجهة الإرهاب وثقافة «الشهادة» الانتحارية البطولية التي يتم تشريبها للجيل الشاب. بالنسبة إلى إسرائيل، يعني ذلك أن جيران إسرائيل الأقربين سيكونون خلال الجيل القادم على الأقل جهة معادية، تفضل المراوحة في مقولات التظلم من «الاحتلال» وأحقية «المقاومة» على فرصة إقامة دولة إلى جانب إسرائيل وتحمل مسؤولية مصيرها.
التحدي الرابع: يتعلق بالعالم العربي. ثمة توتر خطير متنام داخله بين اضطرارين سياسيين: الأول هو إدراك الحاجة، وسط قادة مسؤولين نسبياً، إلى التسليم بإسرائيل والدفاع عن النفس إزاء تهديد التطرف الإسلامي الخطر بنسختيه الإيرانية والسنية؛ والاضطرار الثاني هو الرأي العام المتطرف، المقود من جانب نخب عديمة المسؤولية، والخاضع للتحريض من فضائيات سائبة تتغذى من نظرية المؤامرة الواهمة. هذا الرأي العام يطالب الحكام بإثبات ولائهم للإسلام وللقومية العربية من خلال سياسة راديكالية تجاه إسرائيل والولايات المتحدة والعناصر المتزنة في العالم العربي. حتى الآن، صحيح أن هذا الضغط لم يؤدِ إلى حرب مع إسرائيل، إلا أنه يحول دون تسليم العالم العربي بدولة قومية يهودية ويتيح للراديكاليين الفلسطينيين والإيرانيين والآخرين مساحة عمل خطيرة تضمن استمرار الصراع نشطاً.
التحدي الخامس: هو التهديد النووي الإيراني. بؤرة هذا التهديد لا تكمن، في المرحلة الراهنة، في الإمكان الفوري لهجوم نووي ضد إسرائيل، وإنما بتشجيع استفزازات لا يمكن احتمالها من جانب جهات راديكالية ضدها وضد الولايات المتحدة ودول عربية مسؤولة، انطلاقاً من افتراض أن ثمة مظلة نووية تظلل هذه الجهات ضد ردود الدول المذكورة. الخطر الإضافي هو تحول حتمي لدول وجهات غير مسؤولة في المنطقة والعالم إلى قوى نووية، الأمر الذي يزيد كثيراً احتمالات فقدان الرقابة على هذا المسار وحصول مواجهات نووية. وثمة عنصر مهم في هذا التحدي، يميل البعض إلى التقليل من أهميته، وهو يتعلق بطابع العصابة الحاكمة في طهران. فللمرة الأولى يمكن أن يخضع سلاح دمار شامل مطور ووسائل إطلاق ناجعة لسلطة نظام مجنون، يؤمن جدياً بواجبه وقدرته على تغيير الواقع الإقليمي والدولي بواسطة هذا السلاح.
التحدي السادس: والأخير، هو التآكل الخطير في شرعية وجود إسرائيل. في أوروبا تغلغلت من الهوامش اليسارية الخرفة إلى التيار الوسطي للنقاش العام، الإعلامي والأكاديمي، شكوك عميقة في شرعية وجود دولة قومية يهودية. وتقترن هذه الشكوك بتلميحات فظة عن الطابع النازي لسياسة وسلوك هذه الدولة، الأمر الذي يجد تعبيره في نسبة عشرات في المئة وسط الرأي العام (على الأقل 40 في المئة في ألمانيا) وبمشاعر سلبية تجاه إسرائيل (56 في المئة في أوروبا، و77 في المئة في ألمانيا). وتتغذى هذه النزعة من تناسخ جديد لنظريات معادية للسامية، ومن رفض ثقافي لاستخدام القوة، ومن عدم إدراك حاجة إسرائيل إلى دفاع حاسم عن النفس ضد التهديدات الوجودية التي تواجهها، وكذلك من التشويه الذي تتضمنه التغطية الإعلامية. إن فرص تغيير هذه النزعة في المدى القريب ضئيلة، وذلك لأنها راسخة عميقا في تصورات جمهور واسع وتُمليها عناصر بنيوية.
- في مواجهة هذه التحديات تستند اسرائيل، بشكل اساسي، إلى ذخرين: الدعم المتواصل والمتين للولايات المتحدة والقوة المثيرة للانطباع لدى المجتمع الاسرائيلي. يتيح الذخر الأول لاسرائيل مواجهة تهديدات العالم العربي وايران والأخطار النابعة من القضم المتزايد في مكانة اسرائيل على الساحة الدولية واوروبا. ويتيح الثاني لاسرائيل التطور والازدهار على الرغم من التهديدات الداخلية (أزمة القيادة والعرب في اسرائيل) والإقليمية (الفلسطينيون والدول العربية) والعالمية (اوروبا).
الدعم الاميركي غير مرتبط بأولوية ادارة محددة او بموقف سياسي عابر. وهو آخذ بالتجذر وسط الإدارات الديموقراطية والجمهورية، خلال الحرب الباردة وبعد انتهائها، ومع وجود رؤساء أكثر ودية لإسرائيل (ريغان، بوش الابن) أو أقل ودية (كارتر، بوش الأب)، وفي أوقات الحروب (1967، 1973، 1982، 2006) كما في أوقات السلام (مبادرة السادات، أوسلو).
وهو متواصل حتى عندما تخطئ إسرائيل وتتورط بحرب (لبنان الأولى) أو بسلام (أوسلو). وهو أيضاً مستقر لأنه محصن بشراكة عميقة في الرؤية التي تدمج بين مجتمع منفتح وديموقراطي، وبين الاستعداد لاستخدام القوة عندما يتطلب الأمر ذلك لغاية الدفاع عن النفس ومواجهة التهديدات. وليس صدفة أن تكون الدولتان مكروهتين بشكل مشترك سواء في العالم الثالث او وسط دوائر واسعة، أكاديمية وإعلامية، في اوروبا، تنظر للمصالحة كاستراتيجية قومية لا تستند إلى دعم رادع يقوم على الاستعداد للدفاع عن النفس.
يُضاف الى العناصر المعروفة للدعم الاميركي (تزويد اسرائيل بالاسلحة، وإحباط العقوبات الدولية، الإعراب عن الثقة الاقتصادية الخ)، ان هذا الدعم أتاح لاسرائيل القيام بمخاطرات ذات أبعاد وجودية، مكنتها من تحقيق الاستراتيجية الأهم في تاريخها: فمن دون الدعم الاميركي لم يكن من الممكن اخراج مصر من دائرة المواجهة مع اسرائيل، ولكان قد انتهى الرهان الفاشل على اوسلو بنتائج أخطر بكثير مما شهدنا..... وصولاً الى التنسيق الاميركي الاسرائيلي الذي ساهم مساهمة كبيرة في مواجهة تطورات الساحة الفلسطينية انطلاقا من مفاوضات كامب ديفيد الثانية مروراً بالانتفاضة وما رافقها من عمليات عسكرية وسياسية....
إن المناعة القومية، الإبداعية والمسؤولية السياسية والاجتماعية لدى هذا المجتمع تمثّل العامل الحاسم الذي يتيح له ليس فقط الصمود على مدى عقود من المواجهات والحصار والانتقادات والاتهامات، بل أيضاً تشييد وتطوير دولة مستقرة ومجتمع منفتح واقتصاد متطور وعلوم متقدمة، في ظروف مستحيلة تقريباً.
اليهود في اسرائيل يفقدون أحياناً هذا المنظور لأنهم مشغولون بالفجوة بين الأهداف غير الممكنة التي وضعوها لأنفسهم والواقع المخيب لآمالهم على الدوام، في ظل ارتفاع سقف التوقعات.
إن بقاء ونجاح المشروع الصهيوني يرتكز، منذ انطلاقته، وبشكل اساسي، إلى قدرة القيادة القومية على التمسك بالدائرة الضيقة للقضايا الحيوية التي لا يمكن التنازل عنها تحت أي ظرف، وفي الوقت نفسه المساومة على أي قضية أخرى، حتى عندما يتعلق الأمر بمواضيع حساسة وبتنازلات مؤلمة.
أما بخصوص التحديين الأخيرين، السلاح النووي بحوزة ايران ونزع الشرعية عن اسرائيل في اوروبا والمنظومة الدولية، فإنهما تحديان استراتيجيان وسياسيان في جوهرهما، ما يعني أن العامل الاجتماعي الداخلي أقل حضوراً فيهما.
لكن من المهم أن نؤكد هنا أيضا على الأبعاد الكامنة في قدرة الصمود والمناعة الاجتماعية. فالقضية النووية الإيرانية تضع الجمهور في اسرائيل أمام تهديد خاص، لم يجد اي مجتمع ديموقراطي نفسه في مواجهته: إن اقتران نيات تدميرية معلنة وذات صدقية بقدرة تدميرية مؤكدة ناشئة عن السلاح النووي، من شأنه أن يثير داخل مجتمع ضعيف ظاهرة جماعية من النزوح عن البلاد، أو على الأقل إخـــراج الأبـــناء منها.
وفي ظروف كهذه، يمكن أن نتوقع حصول ضغوط شعبية شديدة على القيادة لاعتماد نهج المصالحة أو، خلافا لذلك، نشوء خيار تصادمي لا مكان فيه للحسابات. صحيح أن الأزمة لم تصل الى نهايتها بعد، لكن في ضوء التجربة المتراكمة، من الصعب ان نتوقع ردود فعل كهذه، باستثناء هوامش المجتمع وباستثناء الفورات الموسمية للهستيريا الاعلامية التي لا تعكس التيار المركزي.
يجدر التأكيد على أمر يفترض أن يكون بديهياً: هو ان اسرائيل (كأي مجتمع منفتح عموماً) لا تملك منظومة موارد القدرة التي تمكّنها من حل هذه التحديات بنفسها. والرسالة الرئيسة على مشارف العقد السابع لاستقلال إسرائيل ليست امتلاكها الرد الكامل على هذه التحديات، أو عدم عرضة وجودها للتهديد جراءها. الرسالة هي أن الدمج بين تجربة الماضي وذخر الحاضر يضمن مواجهة تنطوي على أمل النجاح مع تحديات خطيرة لا مثيل لها.
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد