الموارنة: الاسم والجذور والمعتقد
الكتاب الجديد للأباتي بولس نعمان وللأخت بنوات البحاثة والعالمة، هو قراءة عميقة لتاريخ الموارنة، ومرجع ربما كان الاهم لهذا التاريخ.
لقد كرس الاباتي بولس نعمان معظم حياته، كما البعض سواه في الليتورجيا، والموسيقى، واللاهوت، لقراءة نقدية تاريخية فكرية لاهوتية لشخصية الموارنة وحضورهم. بحث في الجذور وكأنك تنحت في صخور صوانية بازميل المعرفة والقراءة النقدية والمقارنة للدلائل والاحداث لرسم الهوية الفكرية والتاريخية واللاهوتية للموارنة.
اعاد الاباتي بولس نعمان التاريخ الى مدرسة النقد العلمي الذي طهّر "الميثة" من توشياتها وركن الى ثوابتها وحقائقها دون عمليات التضخيم والتعظيم والتبجح والأوهام. لأن "الميثة" هي ناقلة للواقعة التاريخية ولاختبارات وذاكرة البشرية، على مرّ التحولات والايام لتعطي لهب الانتماء والتماسك للجماعة الانسانية في رسوليتها وتميزها وافتخارها ومسارها التاريخي.
الأباتي بولس نعمان وضع الامور في مدارها التاريخي والجغرافي والفكري باثباتات علمية رصينة في عالم التجاذبات ما بين انطاكية والاسكندرية وروما وبيزنطية وجبل لبنان وطن المعايشة التأسيسية لحضارة اللقاء وقبول الآخر ورفض التطهير العرقي والديني.
لم يهدم الميثة التأسيسية بل اعادها الى جرن عمادها الاول، الى ينبوعيتها ومهدويتها التأسيسية في تألق حملها لجذوة النار المشعلة المحطات والاختبارات والخيارات والنسكية والتجاذبات القائمة ما بين الاسكندرية والقسطنطينية وانطاكية وجبل لبنان وروما واثينا وليون. مع الاباتي نعمان، بدأت قراءة جديدة للطرق والبؤر الفكرية وخارطة الطريق للعقل ومقاربة سر الله المتجسد. اي في فعل لقاء ما بين طبيعة الله وطبيعة الانسان، في لقاء اللاهوت والناسوت على تأنسن الله وتأله الانسان. في تعايش وحوار الحضارات والمعتقدات وتساكن آلهة الارض والسماء والناس.
هذا الكتاب موجه الى كوسم الثالث دو مديسيس دوق ارتوري الكبير، احاطت به بيئة فكرية وسياسية هامة: الاصلاح البروتستانتي سنة 1517، ولادة الرهبانية اليسوعية 1545، انعقاد المجمع التريدنتيني 1540 – 1563، سقوط الاسلام في اسبانيا 1492، الغزو العثماني مع السلطان سليم الاول سنة 1516، في هذا الجو عبر الموارنة خصوصاً مع الارساليتين اليسوعيتين، سنة 1578 و1596 من التأثير الفرنسيسكاني الى التأثير اليسوعي.
وقد كان للتأثير الفرنسيسكاني الفضل الاكبر في تأسيس وتمكين الروابط بين الموارنة وروما، في وقت كانت فيه ظروف التحول والتغيير الدولي تعصف بالشرق، مما دفع بالآباء اليسوعيين للوقوف والرد على الهجمات التي تعرض لها الكاثوليك من جانب البروتستانت. واصبح الآباء اليسوعيون فكر روما شرقاً وغرباً وذراعها.
يومها خلق المعهد الماروني في روما سنة 1584، وبعد 90 سنة من تأسيس المعهد الماروني نيرون الباني سنة 1679 كتابه الشهير عن الموارنة "حول الجذور والاسم والمعتقد الماروني" وهو مرهج ابن نمروم الباني، هذا الكتاب المنشور باللاتينية، يقدم اليوم وللمرة الاولى بالفرنسية وقد قامت بترجمته الاخت بنوات وهي احدى الكبيرات العالمات باللغات القديمة الشرقية والغربية وقدم له واهتم بنشره قدس الاباتي بولس نعمان (صفحة الغلاف).
انه مرهج ابن نمروم الباني، وهو الطالب رقم 72 على لائحة تلامذة المعهد الماروني في روما. دخل المعهد سنة 1636. وقد كان له اخوان في المعهد: نقولا وقد دخل المعهد سنة 1634، وحنا متى وقد دخل المعهد سنة 1642، ونمروم وهو اخ كونستاس زوجة ابراهيم الحاقلاني، العالم الكبير، تلميذ المعهد الماروني هو ايضاً، حيث دخل سنة 1620 وهو في عمر الخامسة عشرة. وقد اصبح في ما بعد استاذ اللغات القديمة في روما وبيزا وباريس.
ولد مرهج ابن نمروم الباني في روما سنة 1628 حيث كان اهله. اتى لبنان لمعاونة البطريرك ثم عاد الى روما للتدريس، واخذ كرسي خاله ابراهيم الحاقلاني العظيم. وقد قام بتدقيق ونشر العديد من الكتب ومنها هذا الكتاب موضوع بحثنا.
هذا الكتاب يعطينا الصورة والايقونة التي رسمها الموارنة عن انفسهم منذ ذلك الوقت، وبها أطلوا على العالم، وعن الدور الرسولي الذي وضعوه على افق مسارهم الحضاري والفكري والانساني والوطني كجسر لقاء بين الناس، وكفكر تألق بين السماء والارض، المدهش ان هذه الصورة التأسيسية التي رسموها عن انفسهم، انهم امة حوار ومحبة وتعايش وحرية ولقاء وضعت في هذا الشرق كالاحشاء الحاضنة كل خصوبة العقل والروح في حالة التحولات الادونيسية والقيامة من الموت الى الحياة في تجدد تتلاقى فيه الألوهة والناسوت والحضارات والاديان والجبال والبحار، في عالم من الزهد والنسك وشظف العيش والامانة للانجيل في الفقر والوعر لأجل حرية الانسان والكيان، هذه الصورة بقيت ذاتها الى اليوم، وهي حالة يعيشها الموارنة ويتمورنون بها وبزيتها المقدس ومياهها المباركة.
تلك كانت صورتهم، وهم اليوم يجددون هذه الصورة ذاتها في مجمعهم البطريركي الماروني الاخير. وكأن هذا الثابت هو الذي قال عنه البابا: ان لبنان هو اكثر من ارض انه "رسالة". لأن التعايش الذي اقامه الموارنة مع الدروز والسنة والشيعة وبقية اللبنانيين والعيش المشترك في تلاقي القلوب والعقول وفتح باب اللجوء للآخرين لجبالهم وأديارهم للتمتع بحرية الفكر والمعتقد، هو أساس موقفهم "البروميتي" في هذا الشرق الطاغي والظالم. طبعاً ساعدتهم روما على الانفتاح والحداثة والعلم فطبعوا الشرق في نهضتهم وحضارتهم وحداثتهم ومدارسهم ومطابعهم وتعليمهم للمراة وفرضهم لمجانية التعليم، فجلبوا من الغرب ما يرقّي واعطوا الغرب ما يثقف ويقدّس في حضارة الروح والزهد.
قبل الثورة الفرنسية بخمسين سنة، قرروا في مجمعهم اللبناني ثورة العلم والتجديد والمساواة وحرية المرأة ومساواتها، وما زالوا الى اليوم في عالم الريادة العلمية والروحية مع قديسيهم وعلمائهم.
هذا الكتاب المرجع تكمن اهميته في البحر من البيبلوغرافيا والمراجع العربية والسريانية واللاتينية والفرنسية وسواها. وضعت العالمة الكبيرة والبحاثة الدقيقة بنوات المراجع بطريقة علمية صارمة.
حتى انه لا يمكنك بعد اليوم البحث عن تاريخ الموارنة دون العودة الى هذا المرجع الهام الذي ضم المستندات منذ الجيل السادس عشر في حواش ومرتكزات واستشهادات حتى اليوم. وقد اتى الاخراج الجيد والعلمي والدقيق والانيق ليضيف راحة في القراءة والتذوق. فتم التعاون بين ثلاثة: الأباتي بولس نعمان والاخت بنوات العالمة، والاب يوسف عبيد الذي سهر على طباعة واخراج هذا المؤلف، فكان بين ايدينا مرجع تضمه جامعة الروح القدس – الكسليك الى فخرها بالمؤلفات العلمية الداعية الى العودة الى الذات المشرقية الانطاكية السريانية اليونانية والعربية واللاتينية.
كتابات الينابيع المسيحية Sources chrétiennes صار لها اليوم كتاب على نسقها باللغات اللاتينية والسريانية والفرنسية وفي رصانة المراجع واناقة الطباعة وعمق العلم والامانة الدقيقة لروح النص، بهمة ورصانة بعض البقية الباقية من الباحثين القلة، الموارنة الذين كان يقال عنهم "عالم كماروني" وهم في التواضع وفي شظف العيش وزهد الملبس والكلام ومثال في الحياة والمسلك.
البروفسور الأب يوسف مونّس
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد