نجيب محفوظ «خادش حياء».. «لو كان حيًّا لعاقبناه»!
انتفض عضو البرلمان المصري، نفرت عروقه، واستجمع كل ميراث الذكورة في المجتمع وهو يقول: «نعم أدب نجيب محفوظ خادش للحياء.. ولو كان حيّاً لعاقبناه». ليس مهما اسم البرلماني، هو نموذج، مثله مثل كثيرين. لم تعرف الكتب طريقها إلى بيوتهم إلا صدفة أو بركة. مستقر في جهله، يتفاخر به، يعلقه وساما وشارة.. لذا أراد أن يوضح موقفه بعد جلسة البرلمان للصحافة.. فسئل هل قرأت نجيب محفوظ؟.. أجاب بفخر: نعم، قرأت له عندما كنت صغيرا رواية «الجبل»!
لا يعرف البرلماني الحاصل على درجة الدكتوراه في القانون أن ليس لمحفوظ رواية بهذا الاسم أساسا.. ولا أظن أنه يقصد رواية فتحي غانم التي تحمل الاسم عينه. العبارة التي قالها عضو البرلمان ذات شقين: أدب محفوظ خادش للحياء، نعم هو ذلك، كل أدب عظيم هو خادش لكل ما هو سائد ومستقر، وأدب صاحب الثلاثية «خادش للحياء»، خادش للمستقر. ولماذا لا يخدش الأدب الحياء؟ بل لماذا صار خدش الحياة في ـ القانون ـ تهمة، يعاقب بها الأدباء في القرن الحادي والعشرين؟ هل يريد النائب البرلماني قائمة بأعمال خدشت الحياء على مر العصور؟
قائمة
قائمة تبدأ بالأحاديث النبوية في صحيح البخاري، وتمتدّ إلى ابن عباس والسيوطي، وابن كثير، في الكتب المقدسة: العهدين القديم والجديد، وألف ليلة وليلة، وأبو نواس، والمتنبي، والمعري وحسان بن ثابت شاعر الرسول. هل يريد دليلا لخدش الحياء فى أعمال نجيب محفوظ نفسه؟ الثلاثية التي لم يقرأها النائب (انتهى محفوظ من كتابتها في إبريل 1952، وتعتبر تأريخا اجتماعيا وفنيا لما جرى في مصر بين ثورتين، تبدأ أحداثها عام 1917 وتنتهي 1947). يرصد محفوظ في ثلاثيته هذه ذاك الازدواج لدى الشخصية الرئيسية أحمد عبد الجواد المتدين الملتزم في منزله. تستقبله زوجته بالدعاء، وتساعده على نزع ملابسه وخدمته ووضع قدميه في الماء الساخن، وهي تسرد عليه أخبار الأولاد والبنات، وبينما يستمع متظاهرا بالتجهم؛ لكي لا يقلل من شخصيته المهيبة. وعندما يرغب الأولاد أمرا فإنهم لا يتحدثون إليه مباشرة، بل يخبرون الأم لتمهد له الأمر، ينزعج جدا عندما تخرج زوجته أمينة لزيارة «سيدنا الحسين»، ويتعجب عندما يدخل أحدهم منزله ليطلب يد ابنته للزواج متسائلا أين شاهد العريس ابنته؟ هل فتحت الشباك وظهرت للناس؟
وعندما يخرج من منزله، يتحول مع أصدقائه إلى عاشق «الهلس» والرقص، والشراب، يقضي الليل في العوامات مع العوالم، ويتحول هؤلاء إلى كورال فرقة فنية وعندما ينتهي الحفل يتقمص مرة أخرى دوره الجادّ المحافظ، قبل أن يتجه إلى منزله،
نجيب محفوظ فضح تلك الممارسات المزدوجة التي لم يتخل عنها المجتمع حتى الآن. فضح الساسة الذين كان شعارهم «البقاء للأوسخ بل للأكثر وساخة» مقدما نموذجا لشخصية محجوب عبد الدايم أو سرحان البحيري المتجدد دائما، فضح ممارسات المثقفين وانعزالهم في «ثرثرة فوق النيل».. وفضح.. وفضح.. أليس في ذلك خدش للحياء؟! وألا تذكرنا هذه الشخصيات الورقية، أو التي كان ينبغي أن تكون ورقية بنماذج في الواقع الآن؟
يخدش نجيب محفوظ الحياء.. ولكن لماذا يريد النائب البرلماني أن يعاقبه؟ ما الجريمة في هذا الفضح؟ هل اقترب نجيب محفوظ بشخصياته من الواقع لهذه الدرجة؟ هل لدى النائب أو غيره من المنوط بهم التشريع الأقرب لمزدوجي الشخصيات أو يشبهون محجوب عبد الدايم (لاسمح الله) شعارهم: البقاء للأوسخ!
تاريخ من المساخر
يبدو تاريخنا مجموعة من المساخر التاريخية المتكررة، التي لا تنتهي. في عام 1960، كان نجيب محفوظ بطلا أيضا لاستجواب برلماني شبيه ذلك، في أعقاب نشر رواية «أولاد حارتنا» بصحيفة «الأهرام»، إذ قاد وزير الاقتصاد آنذاك حسن عباس زكي، وكان معروفا بميوله الصوفية، وأصبح بعد أن ترك منصبه عضوا في مجمع البحوث الإسلامية، هجوما شديدا على وزير الثقافة ثروت عكاشة لأنه أسند مهمة جهاز الرقابة لنجيب محفوظ، لرجل «متهم في عقيدته الدينية». ونشر حسن عباس زكي في «الأهرام»، بعد يومين من نهاية نشر «أولاد حارتنا»، وتحديدا يوم 27 ديسمبر 1959 مقالا بعنوان «الفن الذى نريده».. وتلى هذا المقال عشرون مقالا آخر نشرت ما بين «الأهرام» و «الأخبار»، تناول فيها نظريته «الاشتراكية الإسلامية».. مؤكدا أن علة المجتمع المصري هي ضعف «المعاني الروحية». واقترح توظيف كل الامكانيات لتربية المواطنين تربية صالحة، بما فيها الفن: «من حقنا عليه (الفنان) أن يتجه بفنه إلى الأفكار التي رسمتها الدولة لحياتنا».. وأضاف: «أما الحرية فيجب ألا تكون أداة تجريب وتضليل أو تكون مبعثا لزيغ العقائد». «أولاد حارتنا» هي الرواية التي كادت أن تكلف محفوظ حياته 1994 عندما تعرض لمحاولة اغتيال على يد أحد اعضاء الجماعة الإسلامية.
وفي ما بعد، قبل شهور قليلة من «هزيمة يونيو»، وصل إلى عبد الناصر عدة تقارير من أعضاء في الاتحاد الاشتراكي ضد رواية نجيب محفوظ «ثرثرة فوق النيل». تقارير كتبها مثقفون وسياسيون يتهمون الرواية بالخلاعة. الرواية أغضبت الجنرال عبد الحكيم عامر الذي وجد أبطالها في غيبوبة دائمة بسبب تدخين «الحشيش»، وظن أنها تمسّه شخصيا. بقية القصة معروفة، إذ هدد المشير بالقبض على محفوظ، ولكن عبد الناصر أخبره: «إحنا عندنا كام محفوظ يا حكيم»... خاف عبد الناصر من الفضيحة الدولية، وبيعت تقارير الاتحاد الاشتراكي في مكتبات الكتب المستعملة، لنكتشف أن التقارير السرّية، كان يخجل كاتبوها من إعلان ذلك، يستحون. لكنّ المخبرين السريين فى زمن عبد لناصر، كبروا وتخلوا عن الحياء، وصاروا أعضاء في البرلمان، وصار نجيب محفوظ يخدش حياءهم.
الحرية لنجيب محفوظ، الذي مات ولكنه لايزال مزعجا، وفاضحا وخادشا لكثيرين!
محمد شعير
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد